مصطفى الحاج حسين
القيد ... قصة : مصطفى الحاج حسين .
من نافذة اختناقها تطلّ على الزّقاق الضّيق ، بشغفٍ جنوني ، تتلقفُ تلهفه ،
قلبها الغضّ يخفقُ بصخبٍ ، ولعينيهِ المتوسّلتينِ تطيّر إبتسامة من دمعٍ . لكنّ وجه ابن عمّها
المقيت ، يبرز فجأة أمام غبطتها ، فتجفلُ وتصفعها حقيقة خطبته لها ، ترمق خاتمها
الذي يشنق أحلامها بإزدراء ، ترتدُّ نحو انكسارها ، تغيب مخلّفة وراء النّافذة
حسرة في قلب " فتى النّافذة " .
*
* *
بعد توسّلات مذبوحة ، وإلحاح مستميت، تشفق الأم على كآبة ابنتها ، فتفرج عن
جناحيها لبعض الوقت .
يبرق قلبها من الفرحة ، يذوب جليد الرّوح
وتسري في الأوردة مراكب الأماني البيض ...
سيلتقيان .. وتتشابك الأصابع بارتعاشها ، تحتفي بخطواتهما الأرض ، تحتضن الدّروب
فراشات بوحهما ، والغيوم البيضاء تطال جنون القبلات .
أشهر مضت على إعلان حتفها ، قابعة خلف كثبان
أحلامها مع خاتمها اللعين ، تراقب باختناق حاد
تحرّكات " فتى النّافذة" القلقة .
- أتريدين شيئاً من أمّ زينب ؟ .
تردّ أمّها المنهمكة بترتيب قبرها الأثير :
- بلّغيها السّلام .. لكن إياك والتأخر .
* * *
تندفع نحو الباب ، كسحابةِ شوقٍ ، ترقصُ خلجاتها على إيقاعِ الانعتاق ،
تسبقها عصافير التّوق متقافزة فوق أحجار الطريق المرصوفة .
ومن بعيدٍ تلمحُ فتاها يتتبّعها
، فيشتعلُ الصّهيلُ في نبضها ، يرفرفُ دم اشراقها ، جناحاها يغرّدان ، وهي تقاومُ
رغبةً في الالتفات :
- (( مجنونة ماذا لو افتضح أمركِ ؟؟ ..
ستذبحينَ كعمّتكِ ... ارجعي .. ارجعي . )).
تنأى بارتباكٍ شديدٍ عن الحارة ، تتغلغلُ في أزقّةٍ متطرّفة الخوف يثقل قدميها ، أنفاسها تزعق برعبٍ :
- (( ارجعي .. ارجعي .. قد يصادفكما ابن
عمّكِ .)) .
تتباطأ حائرة ، وبعيونٍ متلصّصة تمسحُ المكان من حولها ، تلتفتُ ، تتمهّلُ
، لتقصّر المسافة بينهما .
* * *
يتصاعد الخوف مشوباً بالحذرِ في قلبهِ، ينبتُ لهما أنياب شرسة ، مدركاً
خطورة المغامرة ، يمسكُ خطاهُ عنها :
- (( لن أقامر بها وبي ، لن أشاطرها جنونها
.. ماذا لو طاوعتها ؟!؟! .. سيقول أبي :
- فضحتنا ياكلب ، جلبت لنا الدّمار ، ولأهلها
العار ، ثمّ هل تجدنا قادرينَ على مجابهةِ عائلة "الرّهوان" ؟!..
سيقتلونكَ ، ونحنُ لن نموت من أجلكَ . )) .
* * *
بجوارحٍ مشرئبةٍ متيقّظةٍ لوصولهِ ، تتخيّلُ ما سيدورُ بينهما من حوارٍ :
- مرحباً .
- أهلاً .
متحرّراً من تلعثمهِ ، حاثّاً خطاه بمحاذاتها :
- كيفَ الأحوال ؟.
وبنزقٍ تضعُ حدّاً لمقدّماتهِ :
- " وليد " يجبُ أن نجدَ حلّاً .
* * *
أفاقت من شرودها على تأخرهِ ، شارفت على تخومِ البلدة ، بجرأةٍ تستدير،
فتصطدمُ بخيبةٍ متوحّشةٍ ، تنقضُّ على جناحيها الأبيضينِ ، حينَ لا تبصر أحداً
يتعقّبها .
ينتحرُ بريق عينيها ، أغصان بهجتها تتقصّف
يجفُّ نسغ الانعتاق ، وتتهشّمُ مرايا السّماء،
فوق قفار روحها ، بينما تجأر أعماقها النّازفة :
- آهٍ .. " وليد " لماذا الفرار
؟!؟!.
* * *
في زقاقٍ متهدّم تلمح الشّمس الآفلة " فتى النّافذة " لاهثاً
بانهزامه ، يجرُّ غصّته بمشقّةٍ ، وفي وجدانهِ الجّريح تتعاركُ الأسئلة:
- سامحيني " ياأنيسة " .. لن ألحق
بكِ العار. أهل بلدتنا لا يعرفون الرّحمة ، ليتنا " يا أنيسة " ولدنا
على كوكبٍ آخر .
* * *
مضرّجةً بخيبتها تعرجُ على قبرِ " زينب" ، كاتمة أسرارها ،
تحملقُ الصّديقة في أخاديدِ الدّمعِ ، تشهقُ بالسؤالِ :
- هل التقيتما ؟!
تندُّ عن أوجاعها صرخة مسكونة بالموت :
- انهزم .
تتكوّر الصبيّتان المنكسرتا الأجنحة ، تبكيان أحلامهما بضراوةٍ ، ذليلة
تنكفئ الشّمس ، وبفظاظةٍ ينبثقُ ليلٌ من عويلٍ أسود ، يسربلُ حلمَ المدينة .
مصطفى الحاج حسين .
حلب