محطات
وذكريات (٢(
محمد خليل (الشهم)
عبده الزراع
فى حياة
كل كاتب ومبدع محطات مهمة، وشخصيات أثرت فى تكوينه الإبداعى والادارى، وكانت له
نبراسا ونورا اهتدى به فى طريقه، وما أحوج كل كاتب منا فى بداياته لمن يأخذ بيده
ويضعه على الطريق الصحيح، هذه المحطات، وهؤلاء الشخوص لا يمكن نسيانهم، ولا المرور
بهم مرور الكرام، ولا العبور من فوقهم دونما أن نذكر دورهم المهم والفاعل فى
حياتنا، فلا ينكر الفضل إلا جاحد.
ففى بداية حياتى الوظيفية عندما نقلت من بيت ثقافة أنور المعداوى
بمطوبس كفر الشيخ، للعمل بإدارة الثقافة العامة بهيئة قصور الثقافه، وبالتحديد في
عام ١٩٩٦, حدث أن اقترح أعضاء أمانة مؤتمر أدباء الأقاليم تعديلات فى لائحة نوادى
الأدب، وأعتقد أنه كان أول تعديل لها، وأراد الكاتب محمد السيد عيد مدير عام
الإدارة وقتها أن يناقش هذه التعديلات مع أعضاء نوادى الأدب فى أماكنهم، فاجتمع
بنا أنا وزملائي الأدباء فى الادارة، وهم: الراحل محمد أبو المجد، محمود حامد،
يوسف إدوار وهيب، ياسين الضوى، والراحل سيد عبد الخالق، وناقش معنا هذه التعديلات
واخبرنا بأننا سوف نسافر إلى الأقاليم المختلفة كى نناقش هذه التعديلات مرة أخرى
مع أعضاء نوادى الأدب لكى نصل لأفضل صيغة ممكنة قبل إقرارها بحيث تكون هذه اللائحة
من بنات أفكارهم ونابعة منهم، ومعبرة عنهم، ووزعنا على الأقاليم المختلفة، وكان
توزيعى على إقليم وسط وجنوب الصعيد، وبقية الزملاء توزعوا على الأقاليم الأخرى،.
وقبل سفرنا للاقاليم بيوم واحد اصطحبنا الأستاذ محمد السيد عيد إلى
مكتب الراحل محمد خليل الذى كان يعمل رئيسا للإدارة المركزية للشؤن الثقافية
بالهيئة الذى أراد أن يجتمع بنا قبل السفر، وكنا شبابا يافعا متحمسا للعمل الثقافى
ومؤمنا بدوره أشد الإيمان ونعمل بعقد مؤقت غير مثبتين، وما أن دخلنا إلى مكتبة إلا
وخرج الرجل، وصافحنا جميعا بحرارة وشد على أيدينا، وكان رحمه الله وسيما، مرفوع
الهامة تملأه الحماسة والقوة، بشوشا وصاحب كاريزما، أجلسنا وضغط على جرس مكتبه
فاتى العم جاد ساعى مكتبه وقال له شوف الاساتذه يشربوا ايه، وبعد أن رحب بنا قدمنا
له أستاذ محمد عيد وقال له: هؤلاء هم شباب الأدباء الذين سيسافرون إلى الأقاليم،
فقال لنا رحمه الله يومها كلمات معدودات ولكنها كانت بمثابة الوقود الذى حرك
القاطرة: أنتم مستقبل هذه الهيئة، ونحن نعول عليكم كثيرا، هذا أول إختبار حقيقى
لكم على أرض الواقع، وأنتم لها.. انطلقوا إلى اعمالكم على بركة الله، وكل واحد
منكم يمثل الهيئة بل يمثلنى أنا شخصيا، واى تقصير أو عرقلة لأعمالهم فى هذه
المهمة، اتصلوا بى فوراً، من مكتب مدير عام الثقافة على مكتبى، فجميعهم لديهم
تعليمات بتذليل الصعاب أمامكم.. وانصرفنا من مكتبه تملؤنا الحماسة والإقبال على العمل
بقلب مفتوح.
وفى صباح اليوم التالى استقليت القطار المتوجه إلى أسيوط، وما أن وصلت
إلى أسيوط، لأجد أمام محطة القطار موظف من الإقليم فى انتظارى، اصطحبنى إلى مقر
الإقليم وكان الشاعر الكبير سعد عبد الرحمن فى انتظارى وكان يعمل وقتها -على ما
اذكر- أمينا عاما للاقليم ، وكانت المرة الأولى التي التقيه وجها لوجه قابلنى
الرجل بحفاوة شديدة، ورحب بى وعزمنى على شاى صعيدى، وعرفته على طبيعة مهمتى التى
اتيت من أجلها، وبعدها اصطحبنى إلى الفندق الذى ساقيم فيه وانصرف على أمل لقاء
بالادباء مساء فى قصر الثقافة.
وفى المساء تقابلت مع عدد كبير من أدباء أسيوط، أذكر منهم: الشاعر
الكبير درويش الاسيوطى، والراحل شوقى ابو ناجى، جمال عطا، وغيرهم، ناقشنا اللائحة
ودونت ملاحظاتهم على هذه التعديلات، وبعد أن انتهاء الجلسة، اصطحبونى لأمسية شعرية
في مدينة الغنايم وكانت أمسية جميلة ورائعة، وفى صباح اليوم التالى ركبت القطار
المتوجه إلى القاهرة وكانت رحلة جميلة.
حدث أن بدل معى أحد الزملاء من الإدارة ليكون مسؤلا عن إقليم وسط
وجنوب الصعيد وأكون أنا مسؤلا عن إقليم شرق الدلتا الثقافى، فوافقت وسافرت إلى
دمياط لمناقشة اللائحة مع أدباء المحافظة، ووصلت متأخرا بعض الوقت بعد انصراف
الموظفين فدخلت إلى قصر الثقافة فوجدته خاليا إلا من عامل يجلس في مدخل القصر،
واصطحبنى حيث مكتب المدير العام فوجدته يجلس على مكتبه وهو متأفف فعرفته بنفسي
فقال أهلا ونظر فى ساعته وكأنه يعاتبنى على التأخير فقلت له: المواصلات، وكانت مقابلة
فاترة لم يعزمنى يومها على كوب شاى، وأمر العامل أن يصطحبنى إلى الفندق المجاور
للقصر، ذهبت إلى الفندق وليتنى ما ذهبت، اصطحبنى عامل الفندق إلى الحجرة التى حجزت
لى، وجدتها بائسة وضيقة جدا تتسع بالكاد لسرير صغير، وكدت اختنق فيها، خرجت بعد
أقل من عشر دقائق وتركت مفتاح الحجرة فى الريسبشن واخذت حقيبتى وقررت عدم المبيت
فى هذا الفندق، والعودة إلى القاهرة ليلا بعد أن التقى بالادباء، ذهبت إلى المقهى
المواجه لقصر الثقافة واتصلت بأصدقائى الأدباء الذين توافدوا على المقهى، وأذكر
منهم: الراحلين احمد الشربينى، ومحمد مختار، وأحمد عفيفى، وحلمى ياسين، وصلاح
عفيفى، مصطفى العايدى، والراحل محروس الصياد، وجلسنا نتحدث عن أمور الحياة
والثقافة حتى حان موعد اللقاء، فى المساء التقيت بالادباء فى قصر الثقافة وتناقشنا
فى تعديلات اللائحة وسجلت ملاحظاتهم عليها، وكان من العادة أن نطلب الإدارة
المركزية للشؤن الثقافية بالهيئة بعد الانتهاء من مناقشة اللائحة للاطمئنان علي
مسار العمل، دخلت على المدير العام الذى لم يبرح مكتبة ولم يحضر معنا اللقاء،
واستاذنته فى أن اتصل بالإدارة اتصلت فإذا بالاستاذ محمد خليل هو الذى يرد على
وكان من عادته رحمه الله أن يسهر فى مكتبه لما بعد منتصف الليل، قال لى: إيه
الأخبار يا بطل قلت له: الحمد لله انتهينا من مناقشة اللائحة ودونت الملاحظات،
وبعد غد سوف أكون فى العمل، فقال لى مر على فور أن تعود، بعد أن انتهيت من
المكالمة اصطحبنى الأصدقاء مرة أخرى إلى المقهى، جلسنا نتناقش ونحتسي الشاى
والقهوة، واردت أن استاذنهم فى السفر لكن الصديق الشاعر أحمد عفيفى أصر أن أبيت
عنده فى مكتبه الخاص، وحدث أن اصطحبنى انا وشقيقه صلاح عفيفى إلى منزله العامر
تناولنا العشاء وظللنا الى ما بعد منتصف الليل نقول شعر وكانت ليلة جميلة، فى
الصباح اوصلنى حتى محطة الميكروباس الذى اقلنى إلى القاهرة.
ولما عدت للادارة فى اليوم التالى بيضت التقرير بملاحظات الأدباء على
اللائحة وسلمته للأستاذ محمد عيد وحكيت له ماحدث واستاذنته فى مقابلة الأستاذ محمد
خليل، ذهبت الى مكتبه قابلنى بابتسامة عريضة، وكان رحمه الله حريصا على معرفة كل
تفاصيل الرحلة بكل دقة، ولما علم بتجاهل المدير العام بثقافة دمياط لى، وتعامله
الغير انسانى معى، غضب غصبا شديدا واعتبرها إهانة له هو شخصياً، اتصل بمدير ثقافة
دمياط، ووبخة وعنفه بشدة، وقال له من ياتى اليك من الشؤون الثقافية يبقى هو محمد
خليل، هذا الموقف اشعرنى بأنه ثأر لى من هذا المدير، ورد لى كرامتى، وظل هذا
المدير وإلى اليوم يكرهنى من جراء هذا الموقف، وظل محمد خليل بخلقه الرفيع
وإنسانيته العالية وإدارته الحكيمة قيمة كبرى، تعلمنا منها عزة النفس، وقوة
الشخصية وحبنا للهيئة التى ننتمى إليها.. رحم الله الفنان الكبير محمد خليل، وقد
كتبت هذا المقال بمناسبة افتتاح مهرجان الإسماعيلية للفنون الشعبية أحد أهم
انجازاته الكثيرة.
***********************
***********************