متى تصمت
................
يقال أنّه في عهد
المسيح عليه السلام ظهر أكثر منْ عشرة أنبياء كذبة ، وفي عهد نبيّنا صلّى الله
عليه وسلم ظهر أكثر من ثلاثين نبيّا كاذبا مدعيّا ، وكذلك الشعر لم يتنزه عن الذي
لمْ يسلم منه مقام النبوّة من الأدعياء ، أكاد أجزم أنّ مع كلّ شاعر حقيقي مئة من
الشعراء الكذبة أو يزيدون .
ما كنتُ بدعا من أهل
الشعر ، غير أنّي من أولي العزم في الشعر ، فالشعر عضو أساسي في كينونتي وهو عضو
غير ملموس هو هلام يغطي كامل جسدي المنهك ، وهالة تحيط بروحي المتعبة ، هو مضخة أحساس تسقي تلك المناطق النائية من وجداني ، هو واحة نخل تعشعش فيها عصافير
أحلامي وتتخفى بداخلها مخافة أن تفترس من عقبان غضبي .
خيّرت بين تكريمات الشعراء وكرامات الأولياء ، فاخترت الثانية عن طيب نفس
وخاطر ، فأصبح الشعر لي مريدا يقف على بابي ليس بيني وبينه إلا أن أمنح له الإذن
فيدخل جاثيا على ركبتيه ، طالبا منّي مباركته بكتابته ، فلا أتردد في تلبية طلب
مريد لم يخذلني يوما .
أنا شيء حزين ، نعم أنا شيء ، ألم يقل المولى في كتابه ( وكان الأنسان أكثر
شيء جدلا ) غير أنه يفرحني نص جميل وقصيدة فاتنة لشاب طيب ، فانا أعتبر كلّ قصيدة
جميلة يكتبها صديق تحسب في رصيدي ، لأنّها تحسن الذوق العام حتّى يستوعب ما أحاول
رسمه منْ جمال ، بل يجبرني على أن لا أسلك إلا درب الجمال حتّى في دموعي ، التي لا
بد أن تكون دموع تتمتع بالوسامة .
المشكل الوحيد الذي يغتصب عدمي هو تلك الرؤى التي أشكل من خلالها نصوصي
المنثورة والمنظومة و الخارجة عن التصنيفين ، لقد تحوّل كلّ الكون عندي لقصيدة
كبرى ، فالصور الشعرية لا تدع مكانا أو هاجسا أو حتى فكرة إلا وكان لها منها نصيبا
معلوما كثر أو قلّ ، الشعر أراه في صبية فاتنة تمرّ مرّ السحاب ،أو في مشية شيخ
ينحني ظهره من ثقل الزمن ، أو في وردة تفتح أحضانها للفراشات والنحل وهي في كامل
زينتها حتّى تبث غبار طلعها عن طريقهم ، ببساطة الشعر موجود في كلّ حركة وفي كلّ
سكون ، ولهذا ليس بمستغرب أن يعتمد وزن الشعر العربي على الحركة والسكون لتشكيل
تفعيلاته التي هي حجر الأساس لبحوره .
لا يمكن أبدا أن تكون متعجرفا وشاعرا ، وهذا لا ينفي العزّة بالنفس، بل
أحيانا قوّة النص وضعفه لا تحدّد شعرية الشاعر منْ عدمها ، بل هناك خفايا لا
يعلمها كثير من الناس هي الفيصل في الشعرية و اللاشعرية ، بل هناك خفايا لا يعلمها
الشاعر نفسه ، لأنّ أهمّ شيء تعرف به نفسك إن كنت شاعرا حقيقيا أو أنت من الكذابين
ليس معرفتك متى تتكلمّ ، فالكلام هو نبيذ روحك ، بل أن تعرف متى تصمت ؟
.
***********************
***********************