قصيدة قراتها وانا شاب ناشيء ما دون العشرين من عمري...(أي قبل اكثر من 50 سنة) بحثت عنها ووجدتها... لانها من اروع القصائد التي قرأتها ولم تغب عن ذاكرتي!!
رسالة من اب مصري الى الرئيس ترومان
عبد الرحمن الشرقاوي
(عبد الرحمن الشرقاوي-
شاعر وأديب وصحافي ومؤلف مسرحي مصري. ولد عبد الرحمن الشرقاوي في 10 نوفمبر 1920م
بقرية الدلاتون محافظة المنوفية شمال القاهرة، شغل منصب رئيس تحرير روز اليوسف عمل
بعدها في جريدة الأهرام ، كما تولي عدد من المناصب الأخرى منها سكرتير منظمة
التضامن الآسيوي الأفريقي وأمانة المجلس الأعلى للفنون والآداب. اشتهرت قصيدته
"رسال من اب مصري الى الرئيس ترومان" بعد القاء الولايات المتحدة في عهد
ترومان قنبلتين نوييتين على ناغازاكي وهيروشيما في اليابان، في فترة لاحت بها
نهاية الحرب واستسلام اليابان. الخبراء يقول ان القاء القنبلتين كان لفحص قوتهما
التدميرية!!)
منذ ترومان ومن جاء
بعده شهد عالمنا سباقا مجنونا للتسلح النووي وتطوير قنابل بقوة تزيد مئات المرات
عن قنبلة هيروشيما.
يا سيدي
إليك السلام، وان كنت
تكره هذا السلام
وتغرى صنائعك المخلصين
لكى يبطشوا بدعاة السلام ولكننى
سأعدل عن مثل هذا
الكلام
وأوجز في القول ما
أستطيع
فأنت مُعَـنــَّى بشتى
الأمور بكل الأمور
وإنى لأعجب لِم صوروك
حديد الفؤاد بليد الشعور
وأعلم أنك تهوى الزهور
فتنشد ألوانها فى
الدماء
وتمشى من الأرض حيث شئت
لتقطف كل زهور الربيع
فتسحق أوراقها اليانعات
وتنثرها فوق أرض الشقاء ....
وتجرى الدماء، وتبقى
الزهور!
وأعلم أنك تهوى النجوم
وتعجب كيف تحلى السماء
وتطلب فى الأرض سحر
النجوم فتصنع لألاءها بالدموع
وأعلم أنك تهوى العطور
فتنشر فى الأرض عطر
العفونة!
وأعلم أنك تهوى الحرير
فتطعم - فى الوحل - دود
الخيانة
بخضرة أيامنا الزاهرات
وتسقيه رونق ماء الحياة
لينفث بعض خيوط الحرير
تلف بهن رقاب العصاة!
وأعلم أنك راع ٍ عَطوف
يرى البؤس يلفح وجه القطيع
فينقض كالناحر العبقرى
.. كأياس .. فوق رؤوس الجميع !
على أننى
سألتك - لا ضاحكاً
هازلاً - فقد جمد الضحك فوق الشفاه
وما أنا بالسائل
المستخف
وإنى لأوجس إن لم أخف
وأنت بيمناك سر الحياة
ألا تملك الذرة المفنية
! ؟
ولكن أنا
أنا وابنتى
وفتاتى التى أجن بشوقى
إليها هنا
- أى زوجتى -
وهذا الصديق ، وذاك
الرفيق ، وكل الرفاق بناة الغد
أنملك نحن سوى التضحية
؟
ألا ننحنى لك يا سيدى
وأنت إله الزمان الجديد
وكالله أنت إله وحيد ؟!
معاذك !! بل أنت فوق
الشبيه، وليس كمثلك شئ يكون
وفى الأشهر القلة
الماضيات أبدتَ الذى لم يــُبَد فى سنين !
ولكننى
سألتك يا سيدى .... يا
إله ،
ويا من بيمناه سر
الحياة :
أتقرأ هذا الخطاب
القصير إذا ما تناولت عند الصباح
شراب الدم الساخن
المستباح
بكأس تدسمه (( كوريا ))
بذوب لحوم ضحايا الكفاح
ويمضى النسيم على
وجنتيك (( برومبا )) الأنين و (( جاز )) النواح
وهمس الجراح ؟!
.. ولكن لعل خطابى يريث
لكيلا يروع الصباح الجميل
وأعلم أنك تهوى الصباح
ندىّ الجراح رخيم العويل
ولست أقدم (( طى الخطاب
)) دماء ابنتى
ولا زوجتى !
وذلك عن قلة فى الحياء
وبخل - يغالبنى -
بالدماء ،
وذوق من الريف جافٍ
غليظ كما يغلظ العيش فى قريتى
وما حيلتى !!
فإن لم أقم بحقوق
الوفاء لحامى حضارتنا الراهنة
فهب لى خطيئتى الشائنة
وبعد ..
أتقرأ هذا الكلام
إذا ما تداعيت فوق
الطعام
فتجرع بترول أرض ((
النبىّ )) تــُسيغ به بعض ما تزدرد
وبعض الطعام عصىُّ
نــَكِد
و (( مصر )) وجاراتها
لم تعد من اللقم الحلوة السهلة
و (( فيتنام )) فى
الحلق كالشوكة
و (( غرب أوربا )) مرير
المذاق شديد السخونة لا يبترد
و (( إيران )) تحرق حلق
الإله .. فلابد لابد من جرعة
ومن أين .. هل من سوى
مكة !
متى سوف تقرأ هذا
الكلام سألتك يا سيدى .. بالجنون
وبالمرسلين ..
بفاروق .. .. بالنقطة
الرابعة
بعبد العزيز (1) ، بعبد
الإله (2) .. بكل العبيد من العابدين
وبالتابعين ،
وبالتابعات ،
وبالمرسلات ،
وبالعاصفات
وبالناطحات ،
وبالشاطحات
وبالنازعات ،
وبالناشطات ، وبالغارقات
وبالسابحات من الفاتنات
وبالغائصات من الفاتكات
وبالسابحين من الفاتنين
متى ستطالع هذا الخطاب
؟
أبعد الطعام وبعد
الشراب ؟
وأنت تدخن يا سيدى ؟
وأنت تدخن فى مقعد ؟
وأنت تدخن أعصابنا ،
وتحشو (( بايبك ))
أحلامنا ،
وتلقى الدخان على فجرنا
،
وتسمع رنات أصفادنا ،
وجلجلة القيد فى أرضنا
،
وترجيع أنات أطفالنا ،
وفتك الغلاء بأقواتنا ،
وهمهمة الحزن فى دورنا
،
ودمدمة السخط فى قبرنا
،
وندب عجائزنا الثاكلات
وعصف السعير بأيتامنا ،
وزوجاتنا فى مهاوى
الطريق يلفقن فى العيش من بعدنا ،
أرامل يخفقن تحت السواد
!
ويضربن فى عثرات الحداد
!
يعشن على حسرة لا تزول
.. على أمل عاش فى أمسنا !!
ويبصرن كل أمانى الشباب
تناثرن من فوق أشلائنا
ذبول الشعاع
وهمس الضياع !
* * * * *
ولكننى قد أطلت الحديث
ولم تدر يا سيدى من أنا
إذن سأقدم نفسى إليك ..
فهل أتمنى عليك المنى ؟
نشدتك - بالرعب - يا
سيدى
نشدتك بالرعب ألا تغضبن
لأنى لم ألق فى السجن بعد
بمجدك ما قصّر التابعون
فهم مخلصون
وهم لا ينون ولا يهدأون
ولكنها .. أزمة فى
المساكن !
فقد ملأوا السجن يا
سيدى فما فيه من حفرة خالية
على أن ثمّ مكانا يعد
..
إذن فاطمئن .
وإن كنت يا سيدى لم أمت
وما زلت أدفع أياميه
فما ذاك - والموت - إلا
لأن حبال مشانقنا بالية
لكثرة ما شنقت من حقوق
وتشنق من رغبات الوطن
على أنهم يفتلون الحبال
!
وأقسم أنهم فى غد
سيرموننى بجميع التهم :
- عميل الكومنفرم
- يدبر بالعنف قلب
النظام
- وداعية من دعاة
السلام
- وداهية من مثيرى
الشقاق
وكم عندهم من دليل يساق
!
فبالأمس قلت مع
القائلين : (( نريد الجلاء ))
فقالوا : (( الجلاء ))
لأنتم عصاة ورب السماء
!
ومن سوف يحمى النظام
العزيز ، ومن ذا سيحرس ماء القناة
إذا هجم (( البلشفيك ))
الطغاة ؟!
فقلنا لهم ((بعض هذا الكلام فقد سئم الناس هذا الكلام !
تدارون كل خياناتكم
بدعوى النظام ، وقلب النظام !
ودعوى الهجوم
وشتى الدعاوى التى لا
تقوم ولا تستقيم
دعونا وهذا الكلام
الممل
فهل قام هذا النظام
العزيز على أن نجوع وأن نستغل ،
وأن نستذل ؟! ))
فقالوا : (( متى لا
يطيش الشباب ! ))
فقلنا لهم : (( إننا لا
نريد سوى أن نمارس معنى الحياة !
ونعمل كى يتساوى الجميع
. أمن أجل هذا نسمى عصاة ))
فقالوا : (( المساواة
ما تطلبون ؟ ))
فقلنا : (( أجل ..
بكلاب القصور ))
فقالوا : (( إذن أنتمو
ملحدون ! ))
فقلنا : (( وكيف ؟ هل
قدست كلاب القصور كأهل القصور !
أماناً . أماناً كلاب
القصور ... فقطمير .. أقدسكم يا كلاب
لقد مات كلباً كما عاش
كلباً ... ولم يغد يوماً ولىّ الإله !
(( على أننا ما
أهــّـناكم ))
فقالوا : (( كفى ! ..
قد عرفناكم !
أليس
الكـُــمَـنــْـتِرن يعطيكمو
أوامره باصطناع الفتن ؟
فقلنا : (( الكومنترن !
))
قالوا : (( نعم ))
فقلنا : (( ولكنه لم
يعد .. فقد حل منذ .. )) فقالوا (( وإن ! .. ))
ودارت رؤوسهمو من ذكاء
- وبعض الذكاء يثير
الرثاء -
وقالوا : فهذا دليل إذن
!
لئن لم تكن صلة بينكم
فكيف عرفتم إذا كان حل ؟
لأنتم تريدون قلب
النظام فمأواكم فى ظلام السجون ،
وإن يكن العدل أن
تعدموا )) . فقلنا لهم : (( إننا معدمون !
ولن نخسر اليوم غير
القيود .. ! ولكن بأى قضاء نساق ! ))
قالوا : (( قضاء النظام
الرشيد !
ألستم تسمون تلك
الحثالات من سفلة الناس بالكادحين
وهل بعد هذا دليل يساق
؟ ))
فقلنا .. (( ولكنهم
كادحون ))
ونحن نسميهم الكادحين
لأنهم وحدهم يكدحون
(( ونحن نسميكم
الحاكمين لأنكم وحدكم تحكمون ))
أما نحن بالغاصبين ..
))فقالوا:
أو المترفين ؟ ))
فقلنا : (( بلى ! إنكم
مترفون .. إنكم القلة الغاصبون
أليست حقائق أيامكم من
الترف الفاجر المستبد
ألا تغصبون طعام الجياع
وتحيا خيولكم فى رغد ! ))
* * * * *
على أن هذا حديث قديم
ولكننى يا إلهى ..
الرحيم
خشيت وثوبك بالتابعين
وأتباعهم تابعى
التابعين
وهم مخلصون
وهم طيبون
وهم لا ينون
ولا يهدأون
فلا تغضب
ولا تعتب
فكم لك فى أرضنا من نبى
كثيرون فى زمن واحد ..
وهاتيك معجزة لم تكن
نبيون همتهم لا تحد ..
على أنهم يقبضون الثمن !
ولكنهم أذكياء القلوب
رقيقو الشعور رهيفو العيون
وقد ملأوا كل أيامنا
حديثاً بآياتك البينات
فأنت إذا شئت تــُجرى
الرياح ، وإن شئت تقتلع الراسيات
حكمت على الصين ألا
تكون - فصارت هباء كأن لم تكن !!
وأنت أبدت (( بكوريا ))
الحياة بقنبلة وزنها ألف طن !!
وصرت (( بيونان ))
فالكانها
وأرجعت للشمس يابانها
ووليت (( مدريد ))
ثيرانها
وخاتلت مصر وسودانها
وأنت أقمت (( بروما ))
الأمور وأمسكت ميزانها فاطمأن
وفى ذوقك الرائع
المنتقى مضيت تــُوشِّى لمصر الكفن
وأشهد كم رَوَّج
الأنبياء هنا لاقتدارك فى كل فن
بأمرك تضطرب الحادثات
وباسمك يمضى ركاب المحن !
* * * * *
على أننى قد أطلت
الحديث ، ولم تدر يا سيدي من أنا
ولكن أنا .. أنا من أنا
.. ؟!
.. وُلِدتُ لعشرين عام
مضت على مطلع القرن يا سيدي
وقد فرغ العالم
المستجير من الحرب .. ثم مضى آمنا :
يوزع أسواقه الباقيات
ويهزأ بالموت والتضحيات
وبالذكريات ..
وقامت شعوب تهز الظلام
بمشرق أحلامها الهائلة
وتعلي على خربات الفساد
بناء مدينتنا الفاضلة
فلما بدأت أعي ما يقال
رأيتهم يملأون الطريق
تهز الفؤوس ركود الحقول
وتعلي بما تحتويه العروق
وكانوا يقولون : ((
يحيا الوطن ))
حفاة يهزون ريح الحياة
ويستدفعون شراع الزمن
وساءلت أمي عما هناك ((
وماذا دهى القرية الساكنة ))
فقالت : بُنـَيّ هم
الإنجليز يثيرون أيامنا الآمنة
وقد أخذوا كل غلاتنا ..
وقد نضب الماء في الساقية
ولم يبقى شيء على حاله
سوى حسرة مُرة باقية ! ))
* * * * *
.. ولما كبرت لبست
الحذاء ووليت وجهي إلى القاهرة
فأبصرت من تحت ثقل
السلاح وجوههم الجهمة الحائرة
وكنت أراهم وهم يركلون
فتى في طريقهم .. أو فتاة
وقد ينزعون حجاب امرأة
فتصرخ (( ويلي من
الإنجليز )) .
وقد يعبثون بشيخ عجوز
فيملأني الرعب مما أراه
ـ ويرهق سمعي ـ ما لم أره
* * * * *
وعدت مع الصيف للقرية
لألقى رفاق الصبا كلهم
وتسأل أمى : (( ماذا
رأيت هنالك فى طرق القاهرة ؟ ))
فقلت لها (( قد رأيت
الجنود من الإنجليز ))
فقالت : (( نعم !! ))
فقلت : (( وكيف ؟! ))
فقالت : (( كذا ! )) وفى عينها دمعة تضطرم
ولا تنسجم
وفى صدرها زفرة حائرة
وفى وجهها حسرة ثائرة !
وقال الرفاق : ألا قل
لنا بربك ما هذه القاهرة ))
وكيف تسير عليها الحياة
ويمشى الصباح بها والمساء
وكيف إذا غربت شمسها
تــُضاء المصابيح أم لا تضاء ؟ ))
وكيف الشوارع ؟! هل من
زجاج ؟! وكيف يقوم عليها البناء ؟ ))
فقلت لهم : (( قد رأيت
القصور ! ))
فقالوا : (( القصور
؟؟!! وما هذه ؟ .. فإنا لنجهلها يا ولد ))
فقلت (( اسمعوا يا عيال
.. اسمعوا .. القصر دار بحجم ( البلد ) ! ))
فحكوا القفا وهمو
يعجبون
ومدوا رقابهمو سائلين
وهم خائفون :
(( وهل يسكن القصر جنٌّ
يطوف طواف العفاريت حول القبور
وهل كنت تمشى بجنب
القصور ؟
ألم يركبوك ؟!
ألم يخنقوك !!؟ ))
فقلت لهم : (( إن أهل
القصور أناس .. سوى أنهم .. ))
(( ـــــ مثلنا ؟ ))
وظلوا يضجون حولى : ((
أناس ؟ .. أإنس همو ؟ أهمو مثلنا ؟! ))
فقلت لهم (( إن أهل
القصور أناس .. سوى أنهم .. غيرنا ! ))
* * * * *
يأتي الخريف بأشباحه ،
وتمشي التعاسات فوق الحقول
فأمضي لأطلب علم الكتاب
وعلم الكتاب لدينا هزيل
وندرس (( جغرافيا ))
ذات عام ، ونعرف كل مناخ الدول
وألمح في (( أطلسي ))
دولة ومن فوقها حُمرة تشتعل
ولم يك أستاذنا قد أشار
إليها ، وقد فرغ المنهج
فخيل لى أنه قد نسى
وقلت له : (( قل لنا ما
المناخ ، وكيف التضاريس فى روسيا ))
فقال وقد جحظت عينه من
الرعب : (( ما تلك يا أهوج ))
وخيل لى أننى قد غلطت
فقلت (( أليس اسمها روسيا ؟ ))
فزمجر وهو يقول (( اخرس
! ))
فلم أنبس ..
.. ولكنه بعد حين أتانى
، وقد أوشكت عينه تخرج
وقال وفى صوته رهبة :
(( أجبنى .. كيف عرفت اسمها ؟ ))
فقلت له : (( هى فى
أطلسى ))
وثم أشرت إلى رسمها
فقال : (( لقد فرغ
المنهج
ففيم تساؤلك المحرج ؟
لئن شئت فاشطب على
رسمها
فإنى لأجهل أى الرياح
تهب عليها ))
(( ـــــ على روسيا ؟
))
ــــ أجل ! .. لا تعد
بعد ذكر اسمها ))
فقلت : (( وهل روسيا
هذه .. ))
فقال : (( تشش .. ..
إنها البلشفيك ! .
(( ــــــ وأى الرياح
هى البلشفيك ؟
وهل هى عكسية أم هى ..
))
فقال : (( اجلس ! ))
وضج الصغار : (( وما
روسيا .. وما روسيا ))
فدمدم يلعن آباءنا
وأجدادنا والجدود الكبار
إلى أن تناهى إلى آدم
فأدركه طائف من وقار
وعاد يقول (( اسمعوا يا
كلاب . فهم بلشفيك ! هم البلشفيك ! ))
وثم تلفت من حوله ..
وفى جسمه خبل من حذر !
فقلت له : (( من هم
البلشفيك ؟
وهل هم قبائل مثل
الشلوك ؟ ))
فقال : (( انتظر !
فأنت غلام غرير العمر
وبعد قليل ستبلو الحياة
، وتعرف من أين يأتى الخطر ))
* * * * *
وفى الحق أنى لم أنتظر
فما كنت أفهم هذا الخطر
ولما رجعت إلى قريتى
سألت أبى (( من هم البلشفيك ؟ ))
فصفق من عجب قائلاً ((
لقد جنَّ والله هذا الغلام
فمن أين يعرف هذا
الكلام ! ))
وعاد يحدِّث سُمَّاره
.. ولم تك بى رغبة فى السمر !
* * * * *
ولكننى قد أطلت الحديث
وكنت وعدتك أن أختصر
وقد كنت أحسب أن لن
أطيل .. سوى أنها صرخة تنفجر
فإن كنت يا سيدى قد
أثمت .. فلى أمل فيك أن تغتفر
وإنى لأركع مستغفراً
مثولى فى هيئة مزرية :
بجلد يصيح عليه السواد
وتلفحه شمس إفريقية !!
وما حيلتى .. ليس فيما
لدىّ من العالم شئ لصبغ الجلود
فأظهر لنا آية يا إلهى
تبيد السواد .. وكم ذا تبيد !
* * * * *
ولكننى رغم طول الحديث
ووعثائه لم أقل من أكون
ولستُ بشئ جليل الخطر !
فدعنى أقل لك إنى أب ..
أب ليس غير
وأنت أب .. وكلانا حنون
سوى أن بى رقة للبنين
ولى طفلة كائتلاق
الصباح
كحلم الربيع ، كهمس
القبل
كنورة فى اخضرار الحقول
ينغنغ فى شفتيها الأمل
كعصفورة فى المروج
الفساح
كفجر الكفاح
يلوح على ظلمات الشقاء
ويحمل كل ازدهار الغد
تحاول جاهدة أن تسير
وكانت لعهدى لم تقعد
فحيناً تلوذ إلى حائط
.. فإن لم تجد فإلى مقعد
فإن لم تجد وقفت لحظة
لتضرب ما حولها باليد
ويا ربما رنحتها الخطا
.. ويا طالما .. وقعت .. ضاحكة
لتنهض عازمة من جديد ..
كذلك تمضى بنا المعركة
تدربها عثرات الطريق
وتدفعها خبرة التجربة
ومن حولها معشر ينظرون
وفى عينهم لهفة طيبة
وفى ضحكاتهم غربة .
لكثرة ما ألِفوا من دموع
كذلك ترنو إلينا الجموع
بكوا راحلاً كان ملء
الحياة ندىّ الشباب حَلِىّ الربيع
تجنحه سبحات المنى ،
ويمسكه الأفق المغلق
كبعض حقائق أيامنا
يطاردها السأم الخانق
وما زلت أبكيه مستخفياً
أبدى لهم أننى أصطبر
وهذا قضاء من الكبرياء
، ومعركة لم تزل تستعر
على أن (( عزة )) يا
سيدى هى البسمة الحلوة الباقية
تلوح على وجهها للجميع
عذوبة أيامنا الآتية
ويناسب كل صفاء الحياة
على وجهها كالشعاع الأمين
فما عرفت ما اضطرام
الشقاء وما أدركت ما ظلام السجون
فديتكِ عربيدة ً لا
تبين
تدافع ألفاظها
المبهماتِ بقهقهة طفلة لاهية
وتمسك أيامى الشاردات .
وكم ذا شردت بأياميه
* * * * *
فإن كنتُ يا سيدي قد
أطلتُ . وقد سقتُ هذا الحديث الحزين
فإني حزين
حزين شقي لبعد ابنتي ..
حزين أخاف عليها المصير
وأنت أب . تعرف الوالدين
ولست أريد لها أن تموت
. فرفقاً وأنت تخط المصير
أترمي حماماتنا بالنسور
؟!
معاذ الأبوة يا سيدي ..
فأنت أب . وكلانا حنون
ألست تصون حياة ابنتك
فهل تصنع الموت
للأخريات
وإني لأدعوك باسم
الأبوة .. باسم الحياة .. وباسم الصغار
لتعقد حلفاً يصون
السلام ويرعى المودة بين الكبار
فأنت أب قد صنعت الحياة
ولن تصنع الموت بعد الحياة
لماذا أذن يا إلهى
الرحيم يذيعون حولك هذا الجنون ! ؟
ولكن لمن كل هذا العديد
؟
وتلك الحشود؟
ولكن لمن كل هذا الهزيم
؟
لمن هذه النافثات
السموم ؟
لمن هذه الناشرات
الجحيم ؟
لمن تسرق اليوم أقواتنا
لتصنع ما شئت من فاتكات ؟
لمن تحشد اليوم في
السابحات ، وفي الغائصات , وفي الطائرات
وفي الناشطات
لمن هذه الذاريات
الحطام ؟ .. لمن ؟ .. ولمن هذه النازعات ؟؟!!
لمن كل هذا ؟! لغزو
السماء ؟ .. لتصنع معجزة ؟!
بل لنا
لتحطيمنا
لتجويعنا
لتخريبنا
لتقوى سلاسل أصفادنا
ليرتفع السور من سجننا
لنشر السواد على أرضنا
لتمزيق أجساد أطفالنا
لتمزيق أجساد أطفالنا
!!؟؟
ولكن .. كفى ! لن تنال
ابنتي
وأقسم أن لن تنال ابنتي
!
أتطفىء نظرتها الباسمة
؟
أتقطع أطرافها الناعمة
؟
أتجري دماء ابنتي في غد
كنافورة ثرة تنسكب ؟
أتنثر أشلاءها اليانعات
عليّ حيث تضحك بين اللعب ؟!
أتمزج لحم ابنتي
بالتراب !!
كفى أيّهذا الإله الذي
يلطخ بالوحل طهر السحاب !!
أتنهش هذا الكيان النضر
!
كفى أيها الهمجي الرهيب
..!! كفى أيّهذا الإله القذر !
إله يبول على التضحيات
ويبصق فوق قبور البشر
يضمخ لحيته بالدماء
وترقصه أنـّــة المحتضر
ويسخر من ذكريات النضال
ويهزأ بالأمل المزدهر
كفى أيها الهمجي الرهيب
... !
ويا لفحة من بقايا ذنوب
ويا خفقة من هوى الغروب
فليست دماء ابنتي
كالنبيذ .. وليس نبيذاً دماء الشعوب
* * * * *
ستحيا ابنتي في ظلال
السلام .. وتنعم باللعب الوافرة
تمارس كل حقوق الحياة
حقوق طفولتها الزاهرة
ستحيا انطلاقاتها كلها
وأحلامها الحلوة الشاعرة
وأقسم أن لن تصير ابنتي
غداً طفلة لشهيد قضى
أتسمعني أيها الهمجي !!
ستحيا ابنتي في ظلالي أنا
كأسعد ما نتعاطى الحياة
أتسمعني أيّهذا الإله
ستحيا ابنتي في ظلال
السلام
وتصبح أنت مع التابعين
هواجس من ذكريات الظلام
فإن تملك الذرة المفنية
فإنا لنمتلك التضحية
ونمتلك الذرة البانية
ونملك طاقاتنا كلها
ونملك أيامنا الباقية
وتاريخ أجيالنا الآتية
*****
عبد الرحمن
الشرقاويقصيدة قراتها وانا شاب ناشيء ما دون العشرين من عمري...(أي قبل اكثر من 50
سنة) بحثت عنها ووجدتها... لانها من اروع
القصائد التي قرأتها ولم تغب عن ذاكرتي!!
رسالة من اب مصري الى
الرئيس ترومان
عبد الرحمن الشرقاوي
(عبد الرحمن الشرقاوي-
شاعر وأديب وصحافي ومؤلف مسرحي مصري. ولد عبد الرحمن الشرقاوي في 10 نوفمبر 1920م
بقرية الدلاتون محافظة المنوفية شمال القاهرة، شغل منصب رئيس تحرير روز اليوسف عمل
بعدها في جريدة الأهرام ، كما تولي عدد من المناصب الأخرى منها سكرتير منظمة التضامن
الآسيوي الأفريقي وأمانة المجلس الأعلى للفنون والآداب. اشتهرت قصيدته "رسال
من اب مصري الى الرئيس ترومان" بعد القاء الولايات المتحدة في عهد ترومان
قنبلتين نوييتين على ناغازاكي وهيروشيما في اليابان، في فترة لاحت بها نهاية الحرب
واستسلام اليابان. الخبراء يقول ان القاء القنبلتين كان لفحص قوتهما التدميرية!!)
منذ ترومان ومن جاء
بعده شهد عالمنا سباقا مجنونا للتسلح النووي وتطوير قنابل بقوة تزيد مئات المرات
عن قنبلة هيروشيما.
يا سيدي
إليك السلام، وان كنت
تكره هذا السلام
وتغرى صنائعك المخلصين
لكى يبطشوا بدعاة السلام ولكننى
سأعدل عن مثل هذا
الكلام
وأوجز في القول ما
أستطيع
فأنت مُعَـنــَّى بشتى
الأمور بكل الأمور
وإنى لأعجب لِم صوروك
حديد الفؤاد بليد الشعور
وأعلم أنك تهوى الزهور
فتنشد ألوانها فى
الدماء
وتمشى من الأرض حيث شئت
لتقطف كل زهور الربيع
فتسحق أوراقها اليانعات
وتنثرها فوق أرض الشقاء ....
وتجرى الدماء، وتبقى
الزهور!
وأعلم أنك تهوى النجوم
وتعجب كيف تحلى السماء
وتطلب فى الأرض سحر
النجوم فتصنع لألاءها بالدموع
وأعلم أنك تهوى العطور
فتنشر فى الأرض عطر
العفونة!
وأعلم أنك تهوى الحرير
فتطعم - فى الوحل - دود
الخيانة
بخضرة أيامنا الزاهرات
وتسقيه رونق ماء الحياة
لينفث بعض خيوط الحرير
تلف بهن رقاب العصاة!
وأعلم أنك راع ٍ عَطوف
يرى البؤس يلفح وجه القطيع
فينقض كالناحر العبقرى
.. كأياس .. فوق رؤوس الجميع !
على أننى
سألتك - لا ضاحكاً
هازلاً - فقد جمد الضحك فوق الشفاه
وما أنا بالسائل
المستخف
وإنى لأوجس إن لم أخف
وأنت بيمناك سر الحياة
ألا تملك الذرة المفنية
! ؟
ولكن أنا
أنا وابنتى
وفتاتى التى أجن بشوقى
إليها هنا
- أى زوجتى -
وهذا الصديق ، وذاك
الرفيق ، وكل الرفاق بناة الغد
أنملك نحن سوى التضحية
؟
ألا ننحنى لك يا سيدى
وأنت إله الزمان الجديد
وكالله أنت إله وحيد ؟!
معاذك !! بل أنت فوق
الشبيه، وليس كمثلك شئ يكون
وفى الأشهر القلة
الماضيات أبدتَ الذى لم يــُبَد فى سنين !
ولكننى
سألتك يا سيدى .... يا
إله ،
ويا من بيمناه سر
الحياة :
أتقرأ هذا الخطاب
القصير إذا ما تناولت عند الصباح
شراب الدم الساخن
المستباح
بكأس تدسمه (( كوريا ))
بذوب لحوم ضحايا الكفاح
ويمضى النسيم على
وجنتيك (( برومبا )) الأنين و (( جاز )) النواح
وهمس الجراح ؟!
.. ولكن لعل خطابى يريث
لكيلا يروع الصباح الجميل
وأعلم أنك تهوى الصباح
ندىّ الجراح رخيم العويل
ولست أقدم (( طى الخطاب
)) دماء ابنتى
ولا زوجتى !
وذلك عن قلة فى الحياء
وبخل - يغالبنى -
بالدماء ،
وذوق من الريف جافٍ
غليظ كما يغلظ العيش فى قريتى
وما حيلتى !!
فإن لم أقم بحقوق
الوفاء لحامى حضارتنا الراهنة
فهب لى خطيئتى الشائنة
وبعد ..
أتقرأ هذا الكلام
إذا ما تداعيت فوق
الطعام
فتجرع بترول أرض ((
النبىّ )) تــُسيغ به بعض ما تزدرد
وبعض الطعام عصىُّ
نــَكِد
و (( مصر )) وجاراتها
لم تعد من اللقم الحلوة السهلة
و (( فيتنام )) فى
الحلق كالشوكة
و (( غرب أوربا )) مرير
المذاق شديد السخونة لا يبترد
و (( إيران )) تحرق حلق
الإله .. فلابد لابد من جرعة
ومن أين .. هل من سوى
مكة !
متى سوف تقرأ هذا
الكلام سألتك يا سيدى .. بالجنون
وبالمرسلين ..
بفاروق .. .. بالنقطة
الرابعة
بعبد العزيز (1) ، بعبد
الإله (2) .. بكل العبيد من العابدين
وبالتابعين ،
وبالتابعات ،
وبالمرسلات ، وبالعاصفات
وبالناطحات ،
وبالشاطحات
وبالنازعات ،
وبالناشطات ، وبالغارقات
وبالسابحات من الفاتنات
وبالغائصات من الفاتكات
وبالسابحين من الفاتنين
متى ستطالع هذا الخطاب
؟
أبعد الطعام وبعد
الشراب ؟
وأنت تدخن يا سيدى ؟
وأنت تدخن فى مقعد ؟
وأنت تدخن أعصابنا ،
وتحشو (( بايبك ))
أحلامنا ،
وتلقى الدخان على فجرنا
،
وتسمع رنات أصفادنا ،
وجلجلة القيد فى أرضنا
،
وترجيع أنات أطفالنا ،
وفتك الغلاء بأقواتنا ،
وهمهمة الحزن فى دورنا
،
ودمدمة السخط فى قبرنا
،
وندب عجائزنا الثاكلات
وعصف السعير بأيتامنا ،
وزوجاتنا فى مهاوى الطريق
يلفقن فى العيش من بعدنا ،
أرامل يخفقن تحت السواد
!
ويضربن فى عثرات الحداد
!
يعشن على حسرة لا تزول
.. على أمل عاش فى أمسنا !!
ويبصرن كل أمانى الشباب
تناثرن من فوق أشلائنا
ذبول الشعاع
وهمس الضياع !
* * * * *
ولكننى قد أطلت الحديث
ولم تدر يا سيدى من أنا
إذن سأقدم نفسى إليك ..
فهل أتمنى عليك المنى ؟
نشدتك - بالرعب - يا
سيدى
نشدتك بالرعب ألا تغضبن
لأنى لم ألق فى السجن بعد
بمجدك ما قصّر التابعون
فهم مخلصون
وهم لا ينون ولا يهدأون
ولكنها .. أزمة فى
المساكن !
فقد ملأوا السجن يا
سيدى فما فيه من حفرة خالية
على أن ثمّ مكانا يعد
..
إذن فاطمئن .
وإن كنت يا سيدى لم أمت
وما زلت أدفع أياميه
فما ذاك - والموت - إلا
لأن حبال مشانقنا بالية
لكثرة ما شنقت من حقوق
وتشنق من رغبات الوطن
على أنهم يفتلون الحبال
!
وأقسم أنهم فى غد
سيرموننى بجميع التهم :
- عميل الكومنفرم
- يدبر بالعنف قلب
النظام
- وداعية من دعاة
السلام
- وداهية من مثيرى
الشقاق
وكم عندهم من دليل يساق
!
فبالأمس قلت مع
القائلين : (( نريد الجلاء ))
فقالوا : (( الجلاء ))
لأنتم عصاة ورب السماء
!
ومن سوف يحمى النظام
العزيز ، ومن ذا سيحرس ماء القناة
إذا هجم (( البلشفيك ))
الطغاة ؟!
فقلنا لهم ((بعض هذا الكلام فقد سئم الناس هذا الكلام !
تدارون كل خياناتكم
بدعوى النظام ، وقلب النظام !
ودعوى الهجوم
وشتى الدعاوى التى لا
تقوم ولا تستقيم
دعونا وهذا الكلام
الممل
فهل قام هذا النظام
العزيز على أن نجوع وأن نستغل ،
وأن نستذل ؟! ))
فقالوا : (( متى لا
يطيش الشباب ! ))
فقلنا لهم : (( إننا لا
نريد سوى أن نمارس معنى الحياة !
ونعمل كى يتساوى الجميع
. أمن أجل هذا نسمى عصاة ))
فقالوا : (( المساواة
ما تطلبون ؟ ))
فقلنا : (( أجل ..
بكلاب القصور ))
فقالوا : (( إذن أنتمو
ملحدون ! ))
فقلنا : (( وكيف ؟ هل
قدست كلاب القصور كأهل القصور !
أماناً . أماناً كلاب
القصور ... فقطمير .. أقدسكم يا كلاب
لقد مات كلباً كما عاش
كلباً ... ولم يغد يوماً ولىّ الإله !
(( على أننا ما
أهــّـناكم ))
فقالوا : (( كفى ! ..
قد عرفناكم !
أليس
الكـُــمَـنــْـتِرن يعطيكمو
أوامره باصطناع الفتن ؟
فقلنا : (( الكومنترن !
))
قالوا : (( نعم ))
فقلنا : (( ولكنه لم
يعد .. فقد حل منذ .. )) فقالوا (( وإن ! .. ))
ودارت رؤوسهمو من ذكاء
- وبعض الذكاء يثير
الرثاء -
وقالوا : فهذا دليل إذن
!
لئن لم تكن صلة بينكم
فكيف عرفتم إذا كان حل ؟
لأنتم تريدون قلب
النظام فمأواكم فى ظلام السجون ،
وإن يكن العدل أن
تعدموا )) . فقلنا لهم : (( إننا معدمون !
ولن نخسر اليوم غير
القيود .. ! ولكن بأى قضاء نساق ! ))
قالوا : (( قضاء النظام
الرشيد !
ألستم تسمون تلك
الحثالات من سفلة الناس بالكادحين
وهل بعد هذا دليل يساق
؟ ))
فقلنا .. (( ولكنهم
كادحون ))
ونحن نسميهم الكادحين
لأنهم وحدهم يكدحون
(( ونحن نسميكم
الحاكمين لأنكم وحدكم تحكمون ))
أما نحن بالغاصبين ..
))فقالوا:
أو المترفين ؟ ))
فقلنا : (( بلى ! إنكم
مترفون .. إنكم القلة الغاصبون
أليست حقائق أيامكم من
الترف الفاجر المستبد
ألا تغصبون طعام الجياع
وتحيا خيولكم فى رغد ! ))
* * * * *
على أن هذا حديث قديم
ولكننى يا إلهى ..
الرحيم
خشيت وثوبك بالتابعين
وأتباعهم تابعى
التابعين
وهم مخلصون
وهم طيبون
وهم لا ينون
ولا يهدأون
فلا تغضب
ولا تعتب
فكم لك فى أرضنا من نبى
كثيرون فى زمن واحد ..
وهاتيك معجزة لم تكن
نبيون همتهم لا تحد ..
على أنهم يقبضون الثمن !
ولكنهم أذكياء القلوب
رقيقو الشعور رهيفو العيون
وقد ملأوا كل أيامنا
حديثاً بآياتك البينات
فأنت إذا شئت تــُجرى
الرياح ، وإن شئت تقتلع الراسيات
حكمت على الصين ألا
تكون - فصارت هباء كأن لم تكن !!
وأنت أبدت (( بكوريا ))
الحياة بقنبلة وزنها ألف طن !!
وصرت (( بيونان ))
فالكانها
وأرجعت للشمس يابانها
ووليت (( مدريد ))
ثيرانها
وخاتلت مصر وسودانها
وأنت أقمت (( بروما ))
الأمور وأمسكت ميزانها فاطمأن
وفى ذوقك الرائع
المنتقى مضيت تــُوشِّى لمصر الكفن
وأشهد كم رَوَّج
الأنبياء هنا لاقتدارك فى كل فن
بأمرك تضطرب الحادثات
وباسمك يمضى ركاب المحن !
* * * * *
على أننى قد أطلت
الحديث ، ولم تدر يا سيدي من أنا
ولكن أنا .. أنا من أنا
.. ؟!
.. وُلِدتُ لعشرين عام
مضت على مطلع القرن يا سيدي
وقد فرغ العالم
المستجير من الحرب .. ثم مضى آمنا :
يوزع أسواقه الباقيات
ويهزأ بالموت والتضحيات
وبالذكريات ..
وقامت شعوب تهز الظلام
بمشرق أحلامها الهائلة
وتعلي على خربات الفساد
بناء مدينتنا الفاضلة
فلما بدأت أعي ما يقال
رأيتهم يملأون الطريق
تهز الفؤوس ركود الحقول
وتعلي بما تحتويه العروق
وكانوا يقولون : ((
يحيا الوطن ))
حفاة يهزون ريح الحياة
ويستدفعون شراع الزمن
وساءلت أمي عما هناك ((
وماذا دهى القرية الساكنة ))
فقالت : بُنـَيّ هم
الإنجليز يثيرون أيامنا الآمنة
وقد أخذوا كل غلاتنا ..
وقد نضب الماء في الساقية
ولم يبقى شيء على حاله
سوى حسرة مُرة باقية ! ))
* * * * *
.. ولما كبرت لبست
الحذاء ووليت وجهي إلى القاهرة
فأبصرت من تحت ثقل
السلاح وجوههم الجهمة الحائرة
وكنت أراهم وهم يركلون
فتى في طريقهم .. أو فتاة
وقد ينزعون حجاب امرأة
فتصرخ (( ويلي من
الإنجليز )) .
وقد يعبثون بشيخ عجوز
فيملأني الرعب مما أراه
ـ ويرهق سمعي ـ ما لم أره
* * * * *
وعدت مع الصيف للقرية
لألقى رفاق الصبا كلهم
وتسأل أمى : (( ماذا
رأيت هنالك فى طرق القاهرة ؟ ))
فقلت لها (( قد رأيت
الجنود من الإنجليز ))
فقالت : (( نعم !! ))
فقلت : (( وكيف ؟! ))
فقالت : (( كذا ! )) وفى عينها دمعة تضطرم
ولا تنسجم
وفى صدرها زفرة حائرة
وفى وجهها حسرة ثائرة !
وقال الرفاق : ألا قل
لنا بربك ما هذه القاهرة ))
وكيف تسير عليها الحياة
ويمشى الصباح بها والمساء
وكيف إذا غربت شمسها
تــُضاء المصابيح أم لا تضاء ؟ ))
وكيف الشوارع ؟! هل من
زجاج ؟! وكيف يقوم عليها البناء ؟ ))
فقلت لهم : (( قد رأيت
القصور ! ))
فقالوا : (( القصور
؟؟!! وما هذه ؟ .. فإنا لنجهلها يا ولد ))
فقلت (( اسمعوا يا عيال
.. اسمعوا .. القصر دار بحجم ( البلد ) ! ))
فحكوا القفا وهمو
يعجبون
ومدوا رقابهمو سائلين
وهم خائفون :
(( وهل يسكن القصر جنٌّ
يطوف طواف العفاريت حول القبور
وهل كنت تمشى بجنب
القصور ؟
ألم يركبوك ؟!
ألم يخنقوك !!؟ ))
فقلت لهم : (( إن أهل
القصور أناس .. سوى أنهم .. ))
(( ـــــ مثلنا ؟ ))
وظلوا يضجون حولى : ((
أناس ؟ .. أإنس همو ؟ أهمو مثلنا ؟! ))
فقلت لهم (( إن أهل
القصور أناس .. سوى أنهم .. غيرنا ! ))
* * * * *
يأتي الخريف بأشباحه ،
وتمشي التعاسات فوق الحقول
فأمضي لأطلب علم الكتاب
وعلم الكتاب لدينا هزيل
وندرس (( جغرافيا ))
ذات عام ، ونعرف كل مناخ الدول
وألمح في (( أطلسي ))
دولة ومن فوقها حُمرة تشتعل
ولم يك أستاذنا قد أشار
إليها ، وقد فرغ المنهج
فخيل لى أنه قد نسى
وقلت له : (( قل لنا ما
المناخ ، وكيف التضاريس فى روسيا ))
فقال وقد جحظت عينه من
الرعب : (( ما تلك يا أهوج ))
وخيل لى أننى قد غلطت
فقلت (( أليس اسمها روسيا ؟ ))
فزمجر وهو يقول (( اخرس
! ))
فلم أنبس ..
.. ولكنه بعد حين أتانى
، وقد أوشكت عينه تخرج
وقال وفى صوته رهبة :
(( أجبنى .. كيف عرفت اسمها ؟ ))
فقلت له : (( هى فى
أطلسى ))
وثم أشرت إلى رسمها
فقال : (( لقد فرغ
المنهج
ففيم تساؤلك المحرج ؟
لئن شئت فاشطب على
رسمها
فإنى لأجهل أى الرياح
تهب عليها ))
(( ـــــ على روسيا ؟
))
ــــ أجل ! .. لا تعد
بعد ذكر اسمها ))
فقلت : (( وهل روسيا
هذه .. ))
فقال : (( تشش .. ..
إنها البلشفيك ! .
(( ــــــ وأى الرياح
هى البلشفيك ؟
وهل هى عكسية أم هى ..
))
فقال : (( اجلس ! ))
وضج الصغار : (( وما
روسيا .. وما روسيا ))
فدمدم يلعن آباءنا
وأجدادنا والجدود الكبار
إلى أن تناهى إلى آدم
فأدركه طائف من وقار
وعاد يقول (( اسمعوا يا
كلاب . فهم بلشفيك ! هم البلشفيك ! ))
وثم تلفت من حوله ..
وفى جسمه خبل من حذر !
فقلت له : (( من هم
البلشفيك ؟
وهل هم قبائل مثل
الشلوك ؟ ))
فقال : (( انتظر !
فأنت غلام غرير العمر
وبعد قليل ستبلو الحياة
، وتعرف من أين يأتى الخطر ))
* * * * *
وفى الحق أنى لم أنتظر
فما كنت أفهم هذا الخطر
ولما رجعت إلى قريتى
سألت أبى (( من هم البلشفيك ؟ ))
فصفق من عجب قائلاً ((
لقد جنَّ والله هذا الغلام
فمن أين يعرف هذا
الكلام ! ))
وعاد يحدِّث سُمَّاره
.. ولم تك بى رغبة فى السمر !
* * * * *
ولكننى قد أطلت الحديث
وكنت وعدتك أن أختصر
وقد كنت أحسب أن لن
أطيل .. سوى أنها صرخة تنفجر
فإن كنت يا سيدى قد
أثمت .. فلى أمل فيك أن تغتفر
وإنى لأركع مستغفراً
مثولى فى هيئة مزرية :
بجلد يصيح عليه السواد
وتلفحه شمس إفريقية !!
وما حيلتى .. ليس فيما
لدىّ من العالم شئ لصبغ الجلود
فأظهر لنا آية يا إلهى
تبيد السواد .. وكم ذا تبيد !
* * * * *
ولكننى رغم طول الحديث
ووعثائه لم أقل من أكون
ولستُ بشئ جليل الخطر !
فدعنى أقل لك إنى أب ..
أب ليس غير
وأنت أب .. وكلانا حنون
سوى أن بى رقة للبنين
ولى طفلة كائتلاق
الصباح
كحلم الربيع ، كهمس
القبل
كنورة فى اخضرار الحقول
ينغنغ فى شفتيها الأمل
كعصفورة فى المروج
الفساح
كفجر الكفاح
يلوح على ظلمات الشقاء
ويحمل كل ازدهار الغد
تحاول جاهدة أن تسير
وكانت لعهدى لم تقعد
فحيناً تلوذ إلى حائط
.. فإن لم تجد فإلى مقعد
فإن لم تجد وقفت لحظة
لتضرب ما حولها باليد
ويا ربما رنحتها الخطا
.. ويا طالما .. وقعت .. ضاحكة
لتنهض عازمة من جديد ..
كذلك تمضى بنا المعركة
تدربها عثرات الطريق
وتدفعها خبرة التجربة
ومن حولها معشر ينظرون
وفى عينهم لهفة طيبة
وفى ضحكاتهم غربة .
لكثرة ما ألِفوا من دموع
كذلك ترنو إلينا الجموع
بكوا راحلاً كان ملء
الحياة ندىّ الشباب حَلِىّ الربيع
تجنحه سبحات المنى ،
ويمسكه الأفق المغلق
كبعض حقائق أيامنا
يطاردها السأم الخانق
وما زلت أبكيه مستخفياً
أبدى لهم أننى أصطبر
وهذا قضاء من الكبرياء
، ومعركة لم تزل تستعر
على أن (( عزة )) يا
سيدى هى البسمة الحلوة الباقية
تلوح على وجهها للجميع
عذوبة أيامنا الآتية
ويناسب كل صفاء الحياة
على وجهها كالشعاع الأمين
فما عرفت ما اضطرام
الشقاء وما أدركت ما ظلام السجون
فديتكِ عربيدة ً لا
تبين
تدافع ألفاظها
المبهماتِ بقهقهة طفلة لاهية
وتمسك أيامى الشاردات .
وكم ذا شردت بأياميه
* * * * *
فإن كنتُ يا سيدي قد
أطلتُ . وقد سقتُ هذا الحديث الحزين
فإني حزين
حزين شقي لبعد ابنتي ..
حزين أخاف عليها المصير
وأنت أب . تعرف الوالدين
ولست أريد لها أن تموت
. فرفقاً وأنت تخط المصير
أترمي حماماتنا بالنسور
؟!
معاذ الأبوة يا سيدي ..
فأنت أب . وكلانا حنون
ألست تصون حياة ابنتك
فهل تصنع الموت
للأخريات
وإني لأدعوك باسم
الأبوة .. باسم الحياة .. وباسم الصغار
لتعقد حلفاً يصون
السلام ويرعى المودة بين الكبار
فأنت أب قد صنعت الحياة
ولن تصنع الموت بعد الحياة
لماذا أذن يا إلهى
الرحيم يذيعون حولك هذا الجنون ! ؟
ولكن لمن كل هذا العديد
؟
وتلك الحشود؟
ولكن لمن كل هذا الهزيم
؟
لمن هذه النافثات
السموم ؟
لمن هذه الناشرات
الجحيم ؟
لمن تسرق اليوم أقواتنا
لتصنع ما شئت من فاتكات ؟
لمن تحشد اليوم في
السابحات ، وفي الغائصات , وفي الطائرات
وفي الناشطات
لمن هذه الذاريات
الحطام ؟ .. لمن ؟ .. ولمن هذه النازعات ؟؟!!
لمن كل هذا ؟! لغزو
السماء ؟ .. لتصنع معجزة ؟!
بل لنا
لتحطيمنا
لتجويعنا
لتخريبنا
لتقوى سلاسل أصفادنا
ليرتفع السور من سجننا
لنشر السواد على أرضنا
لتمزيق أجساد أطفالنا
لتمزيق أجساد أطفالنا
!!؟؟
ولكن .. كفى ! لن تنال
ابنتي
وأقسم أن لن تنال ابنتي
!
أتطفىء نظرتها الباسمة
؟
أتقطع أطرافها الناعمة
؟
أتجري دماء ابنتي في غد
كنافورة ثرة تنسكب ؟
أتنثر أشلاءها اليانعات
عليّ حيث تضحك بين اللعب ؟!
أتمزج لحم ابنتي
بالتراب !!
كفى أيّهذا الإله الذي
يلطخ بالوحل طهر السحاب !!
أتنهش هذا الكيان النضر
!
كفى أيها الهمجي الرهيب
..!! كفى أيّهذا الإله القذر !
إله يبول على التضحيات
ويبصق فوق قبور البشر
يضمخ لحيته بالدماء
وترقصه أنـّــة المحتضر
ويسخر من ذكريات النضال
ويهزأ بالأمل المزدهر
كفى أيها الهمجي الرهيب
... !
ويا لفحة من بقايا ذنوب
ويا خفقة من هوى الغروب
فليست دماء ابنتي
كالنبيذ .. وليس نبيذاً دماء الشعوب
* * * * *
ستحيا ابنتي في ظلال
السلام .. وتنعم باللعب الوافرة
تمارس كل حقوق الحياة
حقوق طفولتها الزاهرة
ستحيا انطلاقاتها كلها
وأحلامها الحلوة الشاعرة
وأقسم أن لن تصير ابنتي
غداً طفلة لشهيد قضى
أتسمعني أيها الهمجي !!
ستحيا ابنتي في ظلالي أنا
كأسعد ما نتعاطى الحياة
أتسمعني أيّهذا الإله
ستحيا ابنتي في ظلال
السلام
وتصبح أنت مع التابعين
هواجس من ذكريات الظلام
فإن تملك الذرة المفنية
فإنا لنمتلك التضحية
ونمتلك الذرة البانية
ونملك طاقاتنا كلها
ونملك أيامنا الباقية
وتاريخ أجيالنا الآتية
*****
عبد الرحمن الشرقاوي