فتحي عبد السميع
الغرب البدائي وتقديس إسرائيل
لا يتوقف التقديس عند
مظاهره التقليدية أو المعروفة لنا من خلال تجربتنا الدينية، بل له وجوه أخرى
عرفتها البشرية في مسيرتها فقدست أشياء عجيبة وغريبة، ولا يبدو أن نزعة التقديس
سوف تختفي مهما ارتفعت نبرة التمرد على المقدسات، خاصة في عصرنا الحالي، وهناك
أشياء كثيرة بلغت في أيامنا تلك مقام الآلهة الوثنية مثل المال، والجنس، والسلطة،
وغيرها.
لا يشترط التقديس وعيا
نقديا يجعلنا نختار ما نقدسه أو نعبده، وقد يخترع الكهنة مقدسا لأغراض مادية
تخصهم، ويلتف الناس حوله لأغراض روحية، وأهم مظاهر التقديس غلق الإنسان لأذنيه
وعينيه إذا قلت له اتبع ما تشاهده، أو ما يدل عليه العقل والمنطق، وعبثا تحاول،
لأنه لا يتبع إلا ما استوطن أعماقه من خرافات، وما وجد نفسه عليه، بفضل سلطة
الآباء أو أيَّة سلطة أخرى.
ولا يشترط التقديس
اعترافا به، فقد نقدس أشياء دون أن نعرف أننا نقدسها، لأنها تدخل أعماقنا بعيدا عن
سلطة العقل، أو لأنها ترتبط بأوضاع نظنها
طبيعية، كما هو حال الإنسان الذي كان يقدس القبيلة ولا يعترف بذلك، لكن التقديس
يظهر من خلال درجة التعصب للقبيلة، ووضعها فوق كل اعتبار آخر أو فوق كل مقدس آخر،
وهذا ما يظهر في العالم الغربي وهو ينظر إلى إسرائيل.
كلما استيقظنا على
مذبحة فلسطينية تجرح الفطرة الإنسانية مهما كان دين الفرد أو جنسه، نتعجب من قدرة
الإنسان الوحشية على سفك دماء الأطفال والشيوخ والعجائز والمدنيين العزَّل، وإبادة البيوت والقرى،
لكننا نتعجب أكثر من قدرة العالم الغربي على الصمت، وتغطية الدماء، وتجميل الخراب،
وتقديم الدعم العلني والسريع للقتلة، مع التباهي في نفس الوقت بأرقى القيم
الإنسانية.
المفارقة هائلة جدا، و
لا أعتقد أن العالم الغربي ينتبه لها جيدا، فكثيرا ما ترصد العين البعيدة مثل
أعيننا ما تعجز عن رصده الأعين القريبة، وكثيرا ما تلمس اليد التي تشتعل فيها
النار ما تعجز عن لمسه الأيدي التي تلعب في الماء، ونحن في النار التي يقدسها
الغرب منذ نصف قرن، ومن موقعنا يمكن أن نبصرهم بشكل أفضل، و ويمكن نلمس الجانب
البدائي فيهم.
لقد قام العالم الغربي
بدراستنا كشعوب بدائية، أو متوحشة كما كانوا يقولون، وذلك من أجل استعمارنا ونهب
ثرواتنا، وآن لنا أن ندرس الجانب البدائي في العالم الغربي من أجل العلم والعدل
وحقوق الإنسان.
منذ نصف قرن تقريبا،
تخلى العرب عن شعار الحرب، وأعلنوا تمسكهم بخيار السلام، وقد تأكد العالم أجمع من
سقوط دعاوى إسرائيل باعتبارها دويلة صغيرة
و محاصرة ببحر من العرب المتوحشين وعليها أن تدافع عن وجودها، وأن تتمتع بتعاطف
ودعم الشعوب الإنسانية المتحضرة.
مضى نصف قرن على سقوط
الأكاذيب التي يمكن أن تخدع المواطن الغربي، وبات واضحا لنا الآن، أن التعاطف مع
إسرائيل لا يتعلق بقلوب رحيمة تتمتع برقي إنساني يجعلها تحنو على الضعيف، وترفض
سفك الدماء، وتدافع بنزاهة عن حقوق الإنسان.
في صور لا حصر لها، يتعرض
فيها الأطفال لعنف وحشي من الجنود المدججين بالسلاح، وتظهر فيها صرخاتهم وآلامهم
التي ترفضها الفطرة، ونجد في الغرب من يحول تعاطفه الطبيعي مع الطفل إلى تعاطف مع
الجندي المتوحش بشكل سحري.
ما يُعتبر تعاطف غربيا
مع إسرائيل يظهر جليا بوصفه مظهرا من مظاهر تقديس إسرائيل، وهو تقديس علماني
بالدرجة الأولى، قد يلعب البعد الديني بمعناه التقليدي أو المعروف دورا فيه، لكن
الدور الأكبر تقوم به قوى بشرية تجعل الإنسان الغربي العادي يغمض عينيه فورا عندما
يشاهد طفلا فلسطينا محروقا، أو شيخا محطما، أو بناية مهدمة وقد اختلطت حجارتها
بأجساد سكانها.
لا يغلق الغربي عينيه
لكنه لا يبصر المشهد أساسا، أو يشاهده وينساه فورا، أو يتعاطف مع الدبابة بدلا من
التعاطف مع الأطفال، لماذا، لآن المشهد يصطدم في ذهنه بمقدس غير قابل للنقاش
والمساءلة والمراجعة والتمحيص العقلاني.
لقد تمرَّد العالم الغربي
بقوة على المقدسات، لكنه راح يصنع مقدسات جديدة ومنها إسرائيل. لا أجد سببا وراء
صمت العالم الغربي عن الجرائم الإنسانية التي تحدث في فلسطين أكثر وجاهة من (
تقديس إسرائيل).