الشاعر التونسي ناجي الغربي
رسائل أخرى الى ميلينا ..
عزيزتي ميلينا ..
هل
أخبرتك أنني رجل وفي لذكرياته القديمة .. لأشيائه القديمة .. هل أخبرتك أنني لم
أزل أتلمظ طعم القبلة الأولى ..و أذكر لون حاملة الصدر الذي لم يكن يحتاج تهجيه
الشموخ حاملة ..
هل
أخبرتك أنني لم أزل أحتفظ بأول كتاب للقراءة في سنتي الأولى .. " باب .. بقر
.. شباك .. " امي التي لم تكن تحتفظ
لي بصور للطفولة كانت تحتفظ بكتبي .. ربما
لأنها تظن أنها صالحة لكل زمان .. لم يزل كتاب القراءة يطوي
صفحاته على كل الذكريات .. أثار الزبدة
المذابة و بقايا تين مجفف .. تلك العلامات
الحمراء التي ترسمها آنستي الجميلة كي تحدد لي الواجب المنزلي .. صور الأرانب
الصغيرة مطبوعة جزاء قراءتي السليمة .. لطخات الحبر من ريشة بسمة حين تصر على
مساعدتي في رسم الظاء و تدفعها عجرفة " الذكر" ..
صرخات
جدتي الشقراء و انا أردد الدرس على ايقاع تأرجحي " شد .. مط .. عوج .. طبل ..
حبل "
'إن
شا الله في راسك و روسهم الطبل و الحبل .. اسعد فالك وليدي .. ما لقيت باش
تفايل كان بالطبل و الحبل "
فقط ،
أذهب إهمالي القديم غلافه و بعض أوراقه و غيب عطر سخاب أمي رائحة كف بسمة عنه .
اليوم يا ميلينا و أنا ابحث عن قلم لأسجل
الطلبات اليومية و قد اصبحت الذاكرة شبكة لإصطياد سمك التونة .. فتحت كنزي الدفين
.. درج الاقلام القديمة ..
قبل
أن تصبح الكتابة مجرد نقر على أزرار باردة ، كنت أحب جمع الأقلام .. كان لدي احساس
ساذج بأن القلم الجيد سيكتب نصا جيدا .. و
كنت و لم أزل أحتفظ بأقلامي النادرة .. لم يكن خطي رديئا غير أنني كنت أحب تجويد
الخط و أبحث دائما عن أقلام أعتقدها تفعل
.. و لم أحب أبدا اللون الأزرق للكتابة ، كنت أفضل البنفسجي لأنني كنت أعتقد أن لا لون للحبر غير البنفسج ..
ها
أنا يا ميلينا أمام عشرات الأقلام المختلفة الاشكال و الالوان و الأحجام لا أذكر
متى اقتنيت جلها ،و لم احتفظ بها .. الذاكرة أصبحت شباكا لصيد التونة ،و لكن بعض
الأقلام لا يزال مغلفا بالذكريات ..
هذا القلم المذهب الفاخر كان أول الهدايا من
رفيقة العمر حين عرفت هوسي بالاقلام ..
قلم "البيك" الأزرق الجاف ، الوحيد من
نوعه في مجموعتي .. كان القلم الذي أمضينا به أربعتنا "عقد الأمر الواقع " أمام تعنت
الأهلين .. يومها لم تتعالى زغاريد الفرح كما يقتضي ، و حدهما كان قلبين عاشقين
يزغردان للانتصار و التحدي و يرتجفان من العاقبة ..
هذا القلم الصغير المزركش المحطم .. كان أول قلم تخط به هيفاء حرفا..
يومها دفعها فضول الطفلة التواقة للاكتشاف إلى كسره ، لتر ما بداخلة ، حتى فاض
حبره على أناملها الصغيرة و فستان عيدها و السجادة القديمة .. و لم أكن أملك ثمن
فستان جديد ..
هذا القلم ذو الريشة المفلطحة بشكل ولون القصب .. كان هدية من رسامة اسبانية
صادفتها ذات تيه في بار مزدحم في تونس العتيقة .. كانت باذخة الحسن بشعرها
الكستنائي المجعد القصير و عيونها العسلية المشعة بالسؤال و الدهشة .. كانت تسألني
بين النخب و النخب " هل تعرف دمشق ؟ "
و كنت أجيب بكل غباء " لا " حتى رأيت دمشق في عينيها و صرخت
" الآن أنا أعرف دمشق" .. حدثتني يومها أن ليست دمشق التي تحترق -و كانت
دمشق تحترق- و انما قلبي .. حدثتني أنها أتت تونس بحثا عن معشوقتها دمشق .. حدثتني
أن للروائح في دمشق ألسنة ، بعثرت أوراقها فجأة على الطاولة و طلبت مني أن اعلمها
كيف تكتب دمشق بالعربية ، و علمتني كيف استعمل قلم القصب ..
أنا لا أحتفظ بمجرد أقلام قديمة يا ميلينا ..
أنا أودع الذكريات في الأشياء