عبد السلام عبد البر عبد السلام
هذا أبي
اللهم ارحمه واغفر له
إيهاب عبد السلام
إذا صليتَ في منزلنا في قرية دسيا مركز
المحمودية محافظة البحيرة، فافرشِ السجَّادةَ بمحاذاة الحائط في اتجاه القبلة، ثم
مِلْ بها إلى اليسار قليلا، أمَّا في جميع منازل القرية والمسجدين اللذين بها فإنك
لا تحتاج إلى هذا الميل اليسير، وما عليك إلا أن تحاذي الجدران محاذاة تامة.
لماذا؟
لأن أبي عندما بنى هذا المنزل في بداية
الستينيات، مال بواجهته البحرية تجاه الشرق قليلا، ولم يكن مضطَّرًا لذلك؛ فقد
بناه في أرض لنا وحوله الفراغ من جميع الجهات.
فهمنا بعد ذلك أن هذا الميل البسيط عصم البراندة
الكبيرة في مقدمة المنزل من أن تخترق عُمْقَهَا أشعةُ الشمس الحارقة وقَتَي الشروق
والغروب، فيستطيع من يقعد فيها أن يستمتع بالظل طوال اليوم، وترى الشمس تزاور عن
جانبيها ذات اليمين وذات الشمال في أقل مساحة ممكنة منها، وما كان أكثر قعود أبي
–رحمه الله- فيها.
أظن أن أبي صنع مجسَّمًا كرتونيا صغيرًا
للبراندة، وأخذ يعدل من وضعه في أوقات اليوم المختلفة، ويلاحظ اختراق أشعة الشمس
له مع كل وضع، حتى اختار الوضع الأنسب لبناء البيت.
ويذكر أخي الأكبر أن البنَّاءَ عندما أراد أن
يُرَبِّعَ أركان الحجرات مسترشدا باستطالة قوالب الطوب، أحضر أبي حَبْلًا، وقاس
ثلاثة أمتار وعقد عقدة، ثم قاس أربعة أمتار وعقد عقدة، ثم قص الحبل بعد خمسة
أمتار، ووضَّحَ للبنَّاءِ أن هذه هي الطريقة المثلى لتربيع الحجرة، بأن يجعل
الأمتار الخمسة وتَرًا، ويمد الثلاثة والأربعة على الجدارين المطلوب إقامتهما
بزاوية 90 درجة.
فهمنا فيما بعد أن هذا تطبيق عملي لنظرية
فيثاغورث التي درسناها في المدارس بعد ذلك بسنوات طويلة.
لم تكن الآلات الحاسبة قد وَصَلَتْنَا، وربما لم
تكن اُخْتُرِعت بعدُ، وكانت الثروة الكبرى للفلاح هي محصول القطن، وَيُبَاع
بالقنطار، والقنطار 157.5 كيلوجرام، مما يجعل حساب سعر الكيلوات الزيادة أو الأقل
عن القنطار مرهقًا للغاية، فخطَّ أبي بيده جَدْوَلًا من عدة صفحات، ودَوَّنَه في
نوتة صغيرة، صنعها بيده، تُحَوِّل أي عدد من الكيلوات إلى كَسْرٍ من الألف، ويتم
قسمة سعر القنطار على الألف لمعرفة سعر الكسر، وبذلك يمكن لأي إنسان من خلال هذا
الجدول الوصول لسعر كمية القطن التي يمتلكها بسهولة.
عرفنا فيما بعد أن أبي سلم تلك النوتة للجمعية
الزراعية، وبعد حين طَبَعَتْهَا الوزراة، ووزعتها على جمعيات الجمهورية جميعها؛
لتيسير حساب سعر القطن.
نشأ أبي في قرية يفصلها عن أقرب طريق مُسَفْلَت
أربعة كيلو مترات، وفي موسم الشتاء تنعزل عن العالم تمامًا بطرق طينية تنغرس فيها
الأقدام.
وقد وُلِدَ أبي عام 1932م وتوفي عام 1975م عن
ثلاثة وأربعين عامًا، وعندما قامت يوليو 1952 كانت سنه 20 عامًا، وكان قد بدأ حمل
مسؤولياته في عالم الرجال قبل ذلك ببضعة أعوام، ولم يكن يحمل أية شهادات تعليمية.
ومات وسني 7 سنوات وكان قد علمني القراءة والكتابة بإجادة تامة، وحفظني قصار
السور، وبعض الأحاديث النبوية، وعلمني الحساب حتى القسمة المطولة والكسور.
وحَبَّبَ إليَّ الشعر.
