الانزياح التركيبي في قصيدة " مواويل أنثوية" للشاعرة " " فاطمة علي "
محمد نور إسلام
أولا: القصيدة
درويشة الحب التي
هدهدتها
تمشي على رئة الجنوب
تقاتل
أنسل من زبد الحقيقة
بغتة
مذ كبلتني في هواك
منازل
جارت علي ..وليت أني
صغتها
أضغاث أحلام.. وهل
أتخايل
شفة المسيح وبعض أقبية
الضحى
متناثر فيها الأسى
متفاعل
تبتزني لغة المجازر هل
أنا
موقوتة في نبضهن أطاول
تفجير قلبي ثم أوردتي
هنا
سيل على كبد الحريق
تناضل
قلبي زجاج.. والفولاذ
سياجه
فليحجب الشفق الذي
يتهاطل
قلبي زجاج من حديد
هزائمي
ثكلى وقافلة البشير
تسائل
من أنت قالت وردة غجرية
فاحت ..وركضي في
الغواية ذابل
أنا طفلة هذي رمال
تدللي
خذني بلا ثمن فحزني
بابل
صفصافة أنا لاتباع
جداولي
قل لي بربك هل يباع
تفاؤل
إني أعيذك من جنون
تدفقي
أأعيذ هذا البوح وهو
سواحل
مقدمة
من أهم ما تعنى به المقاربة الأسلوبية
للإبداع الأدبي "الانزياح" و هو الخروج عن المألوف في دلالة الألفاظ و
تركيبها و يقول "نعيم اليافي" عن الانزياح " خروج التعبير عن
السائد، أو المتعارف عليه قياسا في الاستعمال، رؤية ولغة وصياغة وتركيبا"
فيعمد المبدع إلى كسر أفق انتظار المتلقي و قد سمي هذا الملمح بمسميات عدة منها:
الانزياح، العدول، الخرق، التجاوز ، الانحراف، المخالفة، العصيان، التحريف، ...
و تعددت الدراسات
الأسلوبية الخاصة بالانزياح في مجالات كثيرة حيث تناولت : الانزياح الصوتي ،
الانزياح التركيبي، الانزياح البلاغي، ...
مما تمت ملاحظته في
قصيدة "مواويل أنثوية" للشاعرة "فاطمة علي" أنها مثمرة جدا
بالانزياحات المختلفة خاصة من الناحية التركيبية التي تمثلت في التقديم و التأخير
مما يجعل التساؤل قائما أنى تشكلت هذه الظاهرة ؟و ما دلالتها ؟و أثرها على المتلقي
و ما مدى اسهامها في بلوغ النص درجة الشعرية ؟
للإجابة على هذه
التساؤلات يجب أن نرصد هذه الظاهرة التي تؤدي بنا إلى أجوبة موضوعية.
التقديم و التأخير:
يلجأ المبدعون عموما إلى تقديم ما حقه التأخير و تأخير ما حقه التقديم لأجل أغراض
بلاغية و قد قال الجرجاني في فائدة التقديم و التأخير:" هذا باب كثير الفوائد
جم المحاسن واسع التصرف بعيد الغاية لا يزال يفترّ لك عن بديعه و يفضي بك إلى
لطيفه ولا تزال ترى شعرا يروقك مسمعه و يلطف لديك موقعه، ثم تنظر فتجد سبب أن راقك
ولطف عندك أن قدم فيه شيء و حول اللفظ من مكان إلى مكان"، و يظهر التقديم و
التأخير في قول الشاعرة:
انسل من زبد الحقيقة
بغتة
مذ( كبلتني في هواك
منازلُ)
حيث وقع فعل الفاعل على
ضمير ياء المتكلم و تقدمت شبه الجملة (في هواك)
على الفاعل (منازل) و يدل هذا التقديم على الاهتمام أكثر بالمفعول به (
الشاعرة) و (الهوى) و صاحبه المتمثل في ضمير المخاطب الذي أتى على شكل حرف الكاف
من (هواك) و هذا يجسد الحالة النفسية للشاعرة التي وقعت في أصفاد الهوى و تأخير
الفاعل (منازل) أدى إلى التشويق و إثارة المتلقي عن فاعل هذا الفعل و مدى هوى
الشاعرة له ليكتشف المتلقي أن هذا التقديم و التأخير دل على مدى تشبث الشاعرة
بالمنازل التي كبلتها بأصفاد الحب و الهوى .
و يظهر أيضا تقديم
المفعول به على الفاعل في قول الشاعرة:
(تبتزني لغةُ المجازر)
هل أنا
موقوتة في نبضهن
أطاول
يظهر التقديم و التأخير
في هذا البيت حيث تقدم المفعول به المتمثل في ضمير ياء المتكلم التي تلت الفعل(
تبتزني) و تأخير الفاعل(لغة) ليدل هذا التركيب عن تعبير الشاعرة عن أناها
وانفعالاتها التي تبتزها لغة المجازر(الفاعل المتأخر) لتبين مدى طغيان لغة القتل و
الانتحار و الموت في الخطاب اليومي مؤخرا.
كما تمت ملاحظة التقديم
و التأخير في جملة مقول القول المتمثلة في قول الشاعرة:
(من أنت قالت وردة
غجرية)
فاحت ..وركضي في
الغواية ذابل
فالمعيار التركيبي يقول بتقدم الفعل قال على
القول و هنا نلاحظ انزياحا عن هذا المعيار حيث تقدم القول على فعل القول و صاحب
القول و هذا مما يدل على أهمية الضمير المساءل عنه (مَنْ أنت) الذي هو أساس
التساؤل و مركز دائرة الأحداث الحوارية كما أن هذا الانزياح التركيبي كسر أفق
انتظار المتلقي و جعله يتفاعل أكثر و ينجذب إلى الجمال النصي.
و مِن الملاحظ تقديم
الخبر و تأخير المبتدأ في قولها :
( صفصافة أنا) لاتباع
جداولي
قل لي بربك هل يباع تفاؤل
فتقدم الخبر (صفصافة) و
تأخر المبتدأ(أنا) يدل على أهمية الخبر المتمثل في ( صفصافة) مما يجعل المتأمل
يحفر أكثر في تجليات هذه الأهمية حيث الصفصاف يزرع بجانب الجداول التي يستقى منها
و الصفصاف مقاوم للرياح و ظلاله وارفة حيث يقدم الكثير للكائنات الحية و من هنا
نفهم سبب تقديم الخبر على المبتدأ و
المبتدأ(أنا) تأخر هنا ليستمد كل المعاني السامية النبيلة من الخبر(صفصافة) و هذا
الانزياح جعل هذا البيت مفعما بالشعرية و الأدبية.
عموما
النص كله مثمر بظاهرة التقديم و التأخير التي مكنت الشاعرة من اللعب على
أوتار النسيج اللغوي خدمة للجمال و البلاغة و لم يتم رصد كل تقديم و تأخير و إنما
تم القطف من هذه القصيدة الماتعة.
خاتمة :
يلعب التقديم و التأخير
دورا مهما من نواح ثلاث :
النص: جعل التقديم و
التأخير النص مترعا بالجمال و طافحا بالشعرية و ذا طاقات تعبيرية و إيحائية هائلة.
المبدع: عبّر التقديم و
التأخير عن اهتمام المبدعة بما قدمته و ما جعلته متأخرا لأجل التعبير عن تجربتها
الشعرية وانفعالاتها النفسية بصدق أكبر و قد جسد التقديم و التأخير عبقرية لغوية .
المتلقي: كسر التقديم و
التأخير أفق انتظار المتلقي مما أدى إلى انتباهه و ملأ فكره بالدهشة و جعله يتفاعل
مع المبدع و النص.