الباقون الحقيقيُّون
حامد حبيب
فى بلاد الجهل
والبلاهة..فى بلاد الحقد والحسد ، تسمع وتقرأ عن عجائبَ وغرائب ، من التجاهل أو
التعتيم أو التحقير أو الإهانةِ والإذلال أو القتل لذوى القيمة الفعلية،الصالحين
المُصلحين ذوى التأثير
فى تغيير وجه العالم
للأصلَح.
مامِن عالِمٍ ظهرَ
نَجمُه، إلا بُسرعةٍ أفَل.
كُلّما ظهر نبىٌّ أو رسولٌ أو مُصلحٍ أو محبوبٍ لشرفٍ
نسبٍه وصلاحِه أو
مُجدِّدٌ إلاّهبَّ سُلطانُ زمانه لِمَحوِ
أثرِه ، حتى لايذكرُ
الناسُ إلاّ المَلِك،السُّلطان،الخليفة
،الأمير،الرئيس...مخافةَ
أن يظهر عليه أحد، أو يجتمعُ الناسُ عليه دونَه ..ومخافةً على العرش والسُّلطة
.لكن ذلك _مهما حاول كل هؤلاء_لا يُغيِّرُ
من القلوبِ شيئاً ولا
مِنَ الحقيقة..وسيبقى الأنبياءُ
والرُّسُل والمُصلحون
والعُلماءُ الأجلاءُ فوق هؤلاء
وإن أَبَوا ..فالقلوبُ
ليست ملكهم وليس لهم عليها
سُلطان..والعقولُ
النَّيِّرة،لن تقتنع بأن الأسودَ شديدُ البياض..لن تستطيع تحويلِ أحدٍ أن يعبُدَك
ويترك
الله ، فأنتَ ميِّتٌ
والدوامُ لله ، والتاريخُ سيُبقى هؤلاء الشُرفاءُ الأجلّاء فى صفحاتٍ بيضاء، وأنت
ستُذكَرُ ولكن فى
صفحاتِه السوداء...ففرعونُ مذكورٌ
ولكنّه فى الملعونين
الأذليّن، ويبقى موسى نوراً
مذكوراً بشرفِ دعوته،
والنمروذ الذى حاجَّ إبراهيم
معروفٌ ،لكن أذلّه
اللهُ، ويبقى إبراهيمُ بشرفِ دعوته
وكم هم كثيرٌ...ويذهبُ
أبو جهلٍ وأبو لهبٍ،ويبقى
سيِّدُ المُرسلين
(مُحمَّدٌ)بشرفِ وجلالِ دعوته.
تُذكَرُ الأسماءُ
،لكنَّ الفارق ..مَن عن يَمينٍ ومَن عن شمال..تُذكَرُ لتبيان التناقض بين الخير
والشر..بين
أصحاب الجنةِ وأصحابِ
النار.
_______
يحقدُ (هشام بن عبد
الملك)على (علىٍّ زين العابدين
بن الحُسين)_رضى الله
عنه وعن والده_ويحاول
التقليل من شأنه،حين
حجَّ وجهدَ أن يصلَ إلى الحجَر ليستَلمَه،فلم يقدِر عليه لكثرةِ الزحام،فنُصِبَ له
مِنبَرٌ فجلسَ عليه ينظر إلى الناسِ ومعه جماعةٌ من أعيانِ الشام،فبينما هو
كذلك،إذ أقبلَ (زينُ العابدين على بن الحُسين)،وكان من أحسنِ الناسِ
وجهاً،وأطيبَهم
أرجا،فطاف بالبيت،فلما انتهى إلى الحجر تنحّى لهُ الناس حتى استلمَ الحجر،فقال
رجلٌ من أهل الشام:مَن هذا الذى قد هابَه الناسُ هذه الهيبة؟فقال(هشام بن عبد
الملك) : لا أعرفهمخافةَ
أن يرغبَ فيه أهلُ
الشام فيملكونَه_يلتفُّون حوله_
وكان الفرزدقُ حاضراً،
فقال له :أنا أعرفُه.فقال(هشام) : مَن هو يا أبا فِراس؟ فقال
الفرزدق قصيدتَه
المشهورة:
هذا الذى تعرفُ
البطحاءُ وطأتَه
والبيتُ يعرفُهة والحِلُّ والحرَمُ
هذا ابنُ
خيرِ عبادِ اللهِ
كُلِّهِمِ
هذا التّقىُّ
النّقىُّ الطاهرُ العلَمُ
هذا ابنُ فاطمةَ أن كَنتَ جاهله
بِجَدِّه أنبياءُ
اللهِ قَد خُتِموا
وليسَ وقولُك مَن
هذا بِضائرِهِ
العُربُ تعرفُ مَن أنكرتَ والعجَمُ....إلى آخر القصيدة
فغضبَ (هشام بن عبد
الملك)على الفرذدق،وحبسه،
فذاق الفرذدق أفانينَ
العذابِ فى حَبسِه، ولماّ علم
(زين العابدين)أنفذَ له
اثنى عشر ألف َ دِرهم ،فردّها
الفرذدقُ وقال
:"مدحتُه للهِ تعالى لا لِلعطاء".
ويبقى (علىٌّ زين
العابدين)اسماً ساطع الأنوارِ محموداً ..ويبقى اسمُ الفرذدق الذى مدَحه ، والذى
قيل فيه"لولا شعرُه لَذهبَ ثُلثُ لُغةِ العرب"
و"لولا شعرُه
لَذهبَ نصفُ أخبارِ الناس"...ويبقى ذكرُ هشام، ولكن ليس ذكرُ من أصلحَ كذكرٍ
مَن أفسد....
شتّان بينهما...ويبلى
لكُلّ مُسلطَنٍ سُلطانُه ، والله لايَبلى لهُ سُلطانُ.
______
ولما كتب(ليو
تولستوى)_أكبر كُتَّاب روسيا_عن مُحمّدٍ(صلى الله عليه وسلم) قائلاً:"يكفيه
فخراً
أنّهُ هَدى أُمّةً
بِرُمّتِها إلى نور الحق،وجعلها تجنَحُ
للسلام،وتكُفُّ عن سفكِ
الدماء وتقديم الضحايا..
ويكفيه فخراً أنّه فتح
طريقَ الرُّقىّ والتقدُّم،وهذا عملٌ عظيمٌ لايفوزُ به إلاّ شخصٌ أولى قوّة وحكمة
وعلماً، ورجلٌ مثلُه
جديرٌ بالاحترام والإجلال"..كان
جزاءُ (تولستوى)على
كلمةِ الحق التى قالها تلك، أن
حرمهُ البابا من
الرحمة.
ويبقى(تولستوى)تلك
القيمة الأدبية المُفكّرة،بشهادته الغرّاء،لِيُجلّه التاريخ والقرّاء، وذهب البابا
حيثُ ذهب
لاذِكرٌ له سوى أنه
كرهَ الحقيقةَ وأبان عن حقده لرسول الإنسانية..وشتان بين هذا البابا ومن أقرّ
بالحقيقة.
________
وحين طوّر(جاليليو)التلسكوب،وكتب
كتابَه الشهير
"حوار حولَ
النظامَينِ الفلكيَين المشهورَين"ثارت
الكنيسةُ ضدَّه
،وقدّمته لمحاكم التفتيش باعتبارِه
خارجاً على الكنيسة،ور
ضدّه حُكمَين:
الأوّل: أن يَلزمَ بيته
،ولايزوره أحد.
الثانى:أن يُعلنَ أمامَ
الناسِ جميعاً أنَّهُ ليس صحيحاً
أنّ الأرضَ تدورُ حولَ
الشمسِ، وإنما الشمسُ هى التى تدورُ حول الأرض. ..فنظر إلى الأرض ِ وقال
هامِساً:"ولكنَّها هى التى تدور" ورفض ماتدّعيه الكنيسة.
بقى(جاليليو)العالِم
الشهير بأبحاثه ودراساته واختراعاته،عالِماً جليلاً ،بإثباتِ حقائقَ علمية لاتقبل
التزييف، وبقى ذكرُ
الكنيسة _حينها_عالَمٌ من الجهل
والخُرافة...وشتان بين
عالِمٍ وجاهِل.
_________
أثارنى فى هذا
الموضوع_أيضاً _مانشره صديقى
الأديب(مجدى جعفر)عن
العلّامة صاحب السبق
الأوّل فى دراسة الأدب
المقارَن_ابن قرية سلمنت
مركز
بلبيس_الدكتور(محمد الغُنيمى هلال)الذى
توسّم فيه د.طه حُسَين
النبوغ،فأرسله فى بعثةٍ لفرنسا عام١٩٤٦م،فعاد عام ١٩٥٢م،ليضعَ (١٤)مُجلّداً
فى الأدب المُقارَن،
ويشهدُ له الأدب العالمى بريادته
فى هذا المجال،بأنه
أوّل مَن قدّم الأدبَ المُقارَن
فى العالَم بشكل منهجي
علمى، ويكون جزاؤه أن
يُعزَل من عمله ويُنفَى
إلى السودان عام١٩٦٦م،فلم
يحتمل الرُّجل ،
العالِم الجليل ذلك، ومات كمداً عام
١٩٦٨م.
فهل مات بالفعل؟أم هو
باق؟
بالطبع ، قد كتبَ اللهُ
له البقاء بعلمِه الثّرى الغزير،
ليظلّ فى ذاكرةِ
التاريخِ قامةً فكريةً أدبية، وليذهب
مَن حاولوا إطفاءَ
شُعلته إلى سَلّةِ قمامة التاريخ..
باقيين فيها للأبد،
ويبقى هو فى قلوبنا أحدُ مصابيح المعرفة التى أضاءت حياتَنا.
*وأشكرُ للصديق مجدى
جعفر تلك التغطيةِ الثريّة عنه...كما أشكر الصديق (عبد الله مهدى)الذى كان
أوّلَ مَن طالبَ بتكريم
د.محمد غُنيمى فى ثمانينات
القرن
الماضى،بمجلة"صوت الشرقية"هو وشيخ
النُّقّاد د.محمد
مندور.
____________
كم هم كثيرٌ جداً،
أولئك الذين أناروا لنا الطريق بعلمهم ، وفكرهم،وإصلاحاتهم وصلاحهم..أولئك هم
الباقون حقّاً ..هم فى قلوبنا..لنا شرفُ اللقاء بفكرهم
وعلومهم وإرشاداتهم
التى تُنير حياتَنا والأجيال بعدنا....لهم أروع تقدير وأجلُّ تكريم.
______________
حامد حبيب_مصر