أفضل فاضل
الشاعر والشعر
إذا كان الشِعرُ
محاولةً في إلقاء القَبض على الدَهْشَةِ مُتلبّسَةً بالبَـرق، فلابدَّ لمن
يَعتَنيه أن يقفَ حيث يعالج قلبَـه لئلّا تخلع أبهرَهُ تلك الدهشةُ الأزليّة ، و
حيثُ يداري شِغافَـه لئلّا تتفحّم بمَسيل الصواعِق ، فهناك تماماً تكمنُ اللآليءُ
السوداء و تختبئُ بيوضُ العنقاء.
لا ينفرد الشاعر وحده
بهذه الصفات و بهذه الحَظوَة الملكيّة النبيلة ، هناك الكثير ممن يقرأونَ الشعرَ
يمتلكونها ، فتراهم ينتشونَ لوقع الحروف مثل طفلٍ فاجأتهُ الهدايا في صباح عيد ،
يبعثون في النصِّ روحَـهُ الأبديّـةِ خَلقاً بعد آخر.
و بعيداً عن الشاعر و
قارئيه الصَفوة ، يجيءُ النقدُ المنهجيّ اليابس الناشف كطَعم الجفاف في أفواه
الصائمين ؛ يجيءُ ليشرحَ ما يُحَسُّ ، و ليُبيّنَ مايسطعُ ، و ليوضّحَ ما يبزغ ،
أو ليستهجن ما يُعيب لخِلّة واضحة.
إنّي لأَعجَبُ من عملية النقد الأكاديميّ
المُبستر الذي يهرولُ إلى النَصِّ مُتسلِّحاً بمشارطهِ و سكاكينِهِ و مباضعهِ
ليهرسَ لحمَهُ و يفريَ كُليَتيه! ما
فائدتها؟
إنَّ أسوأ ما في مدارس
النقد منهجيّتها ؛ فكيف تحاولُ أن تطبقَّ منهاجاً على نصٍّ شعريٍّ هو أشبهُ بغابةٍ
ملضومةٍ أغصاناً متشابكة رأساً و قاعاً ، لا طريق بها يبتدي أو يودي؟!
لا نهجَ للقصيدة ، فليس
من مهمّاتها أن تصل بكَ إلى أيّ أين ؛ و ليس في نواياها غير أن تدهشك و تصعقك و
تترك لك الأختيار في كيف تتفحَّم.
ثمَّ ما الذي ينفعُ في
تشريح قوامها الجميل ، أو القبيح؟ فالجمالُ بيِّنٌ و القُبحُ بيّن ؛ هل أحتاجُ إلى
من يخبرني عن النَسغ لأؤمنَ أنَّ ما أراهُ شجرة يانعة ، أو عن السوس الذي ينخرُ
ليُؤكِّدَ لي أنَّ ما أراهُ هو عجزُ نخلٍ مُنقَعِر ؟!
إنَّ قراءة كتاب نقديّ
مهمَّة عسيرة و شاقة بالنسبة لي ، و لطالما تمتمتُ لنفسي و أنا أهمُّ بقراءة كتاب
نقديٍّ : سيُرهقني صعودا ...
لذلك أقولُ ، أنَّ
أحسنَ من يحتفي بالشعر همُ الشعراءُ الحقيقيون ، ثم القرّاء النادرون ، الذين
أُسمّيهم شعراء التلقّي.
يُقيّمُ الأطبّاءَ
أطبّاءٌ مثلهم ، و المهندسين مهندسون مثلهم ، و هكذا في كلّ اختصاص ، فلماذا حين
يرتبط الأمرُ بالشعر ذي الدهشة و البرق ، يقيّمُ جودَتَهُ من هو في الدهشةِ
بلاهَتُها ، و في البرق خُلَّبُهُ ؟!