زكريا محمد
***
الموت رجل مجنون
أيلول في أواخره. يمشي ويده على جبينه كأنه نسي
شيئا. لا يعرف أنه نسيني مثل كيس على الرصيف.
اسمع يا أيلول، يا من ترتدي سترتك القديمة
مقلوبة، أنا لا أُنسى أبدا. وكيف ينسى من كان الحجر في قبضته، والنجمة تحت لسانه.
أعرف الخرافة عن قلبك المحشو بالذهب: "ورقه الأصفر ذهب مشغول". لكن ذهبك
لا يهمني أبدا، فالفضة مذهبي.
ولولا أن أسراب طيور السمّان تعبر البحر المتوسط
كله من أجلك، لكنت أطلقت عليك النار يا أيلول.
أيلول في أواخره: عود العنصل يصعد في السماء
وتتفتّح فيه ألف زهرة، وآخر ثمار التين في فمي.
27-9-2021
*
أخَذَتنا النار بجديلتها، نحن المأخوذين. نحن
الآخذون أيضا. التقطنا أسماءنا من موائد رمضان. نبشناها من أعشاش الدبابير. لم يكن
لأمهاتنا دخل في هذا ولا لآبائنا. فقد اخترعنا ذواتنا بأنفسنا. كل واحد حمل ذاته
على ظهره مثل جمل يحمل بطيخا. لذلك فذواتنا تتكسر مثل البطيخ.
نهتدي بالإشارة وأسمائها: هذه وتلك وهاتيك. نضع
سباباتنا في العين السليمة والعين العوراء.
نخرج في الصبيحة ونغني مثل سرب دبابير. نخرج في
العصر مثل قبضة تبن تطير في وجه السماء.
أما أنت يا ابن منظور فمهما فرقعت لنا بإصبعيك،
فلن نأتيك. نريد أن نعيش بلا لغة. نريد أن ننمو بالملح وحده مثل نباتات الغور.
من يأسنا ختنّا للغراب شفته، وختنّا للوزغة
قلبها، فغنت يائسة: تشك تشك تشك.
نحن المأخوذون، فلم أخذتمونا؟
نحن الخاسرون، فلم اشتريتمونا؟
12-9-2021
*
لا أنا في الحجر ولا في الزهرة.
مع ذلك فقد أحبتني مريم. أشعلتني مثل شمعة،
وقرأت رواياتها الطويلة على ضوئي. وكان هذا ملائما لي. فأنا لا أعرف ما الذي أفعله
بالحب الذي وصلني في طرد بريدي.
وأحيانا أرى أن الحب مأسوف عليه مثل ميت في
التابوت. لكن في أحيان أخرى أرى أنه حمار بوريدان الذي وقف متفلسفا بين كومة العشب
وجردل الماء.
وعلى كل حال فهذا لا يهم، فقد كانت مريم مدينة
وكنت أنا قاضي قضاتها. وكانت سفينة، وكنت أنا مرساتها التي ألقيت في الماء.
ولعل الحب أن ترميك يد مثل مرساة في الماء، أن
تكسرك مثل حصالة، وأن تقتلك مثل حصان.
كل شيء يجري مجرى التشابيه: الموت حصان، والقبلة
حصالة، والليل رواية طويلة.
وليس بين الحجر والزهرة سوى مريم العمياء. وهي
تتحسس وجهي كي تشكله بالطين. والطين نقطة وسطى بين اليأس والحنين.
24-8-2021
*
أعطيني منديلا كي أخيط اسمك عليه بالحرير.
أعطيني وردة كي أجنّ بها. أريد أن أجنّ بشيء ما قبل أن أموت.
وصلت الحقيقة عتبة بيتي، ثم رجعت قبل أن تطرق
الباب. وقفت النجمة على نافذتي ثم اطفأت نورها قبل أن تفتح فمها.
سأصلي صلاة الفرض، ثم أتبعك. سأكتب لك مقطعا
حلوا كي يتبخّر تحت الشمس.
الأيام أقلام رصاص، وأنا أبريها بالمبراة
وأستهلكها. الأيام حجارة وأنا أرمي بها في بركة الله.
صعدت الوزغة بيدها المخمسة على الحائط، وحدّقت
بعينها الحذرة في عينيّ. صعدت الشمس في السماء، وقذفتني بالجوز الصلب.
والمشكلة أنه لم يعد هناك ما يستحق البكاء، وأنا
أريد أن أبكي. اسمعي يا نوال: البكاء هو النجمة الوحيدة التي تبقّت لنا. ليس لنا
نجمة غيرها.
وضع الصياد حبّة في بيت النار يا نوال. طوت
اليمامة جناحها، وجثمت على الغصن، وأنا أمزّق بالسكين مناديلك، وأحرق بالكبريت
مقاطعك.
22-8-2021
*
هناك نجمة كبيرة، لها أخ صغير يعبدها. وهناك ليل
فاسد سكران، وفجر سيطلّ من وراء الأفق بأذنين كأذني حصان.
وأنا أشرب الماء في العتمة من الترعة. أشرب
الماء من أحلام باشلار.
وما زلت عند رأيي القديم: حين أموت سأتصرف كميت،
لكن قبل ذلك سأتصرف كحيّ.
اطلعي يا هنيدة من الحجر كي نأكل الفجر معا مثل
حبة تين.
اطلعي يا إيزيس من الماء كي أضيء لك الفجر مثل
زهرة لوتس.
التشابيه عبيد في أعناقها الأغلال. وأنا أريد ما
هو أبعد من التشابيه. لكن ليس هناك أحد استنصحه في هذا. ليس هناك أبَدٌ كي آكل
كبده.
هناك نجمة منسية، وسوف يأتي رسول كي ينشر نورها،
ويسبّح باسمها. وأنا سأكون أول من يؤمن به.
وهذه كما ترون مقاطعي: حجر في بركة الليل، وحجر
في بركة النهار. وسوف أجمعها لاحقا في كراريس.
آب كراسة واحدة، وأيلول، الذي سيأتي مصلوبا، خمس
كراريس.
10-8-2021
*
لم جرحتِ سبابتي يا أسماء؟ لم جرحتِ فكرتي عن
ذاتي؟
لو كنتِ سألتني كنت وضعت لك، برضاي، كفيّ على
المنضدة كي تقطعي سُلامياتها بالشفرة. وكي تجرحي أناي العليا والسفلى معا.
الجراح كثيرة يا أسماء. أكثر حتى من أن تُعدّ.
وجرح زائد آخر لن يقتلني، ولن يجعل مني نبيّا.
وقد كان مقصدي في هذا الصباح أن أكتب لك مقطعا
مثل صقر في عينه ورس، وعن حجر في جوفه فرس.
7-8-2021
*
تعال، إن أردت.
لكنني سأتدبر أمري إن لم تأت. لقد اعتدت أن
أنتظر، وألا يأتي من انتظره. أكسر قنديلا، وأعْدم ضوأه. أضرب بالبلطة جذع شجرة،
وأقطعه. هذا هو انتظاري.
وفي هذه الصبيحة أكلت خمس حبات تين قطفتها بيدي.
وهذا هو عزائي الوحيد. أتعرف أن ثمرة التين في الحقيقة زهرته؟ إذن، فأنا أكلت خمس
زهرات تين. أكلت خمسة آلاف سنة من الحكمة. وقد فعلت ذلك من أجلك. فعلته كي يغضب
عليّ الله.
لا تأت إن أردت. بيني وبينك حرب إرادات. والنار
هي البهيمة الوحيدة التي تُركت ترعى حرّة في تلال هذا الصيف. لكن حين يطلع سهيل
اليماني في أواخر آب، سيرد بنهرة واحدة قطيع النيران في التلال. وحين يطل الخريف،
سأنحني وأقبّل يده انتقاما.
عامدا متعمدا قعدتُ تحت التينة، وغنيت في داخلي
بلا صوت. فأنا أغني لنفسي وحدها. حكمة الإنسان العليا أن يغني لذاته. ليس هناك
حبيب ولا قريب. هناك ذات تغني لذاتها، ولا شيء غير ذلك. لذا من الأفضل ألا تأتي
أنت، وألا أنتظر أنا.
أنا مكتفٍ بأن أنتظر سهيلا اليماني كي يرد بهائم
النار. مكتفٍ بأن أنطر ريح الخريف كي تربط الشّبرات في شعر بناتها.
7-8-2021
*
فتح النهار كفه مثل شحاذ فأسقطتُ فيها قرشا.
فتحت الريح فمها وأرادت أن تغني. أما أنا فما زلت أجري وراء المعنى. وكيف لي أن
أجد المعنى وأنا لا أعرف اسمي؟ على المرء أن يعرف اسمه قبل أن يذهب لصيد السّمان.
مرّت طيور أبي فصادة فوقي وهي تحمل خريفي على
أجنحتها. مرت بذور الهندباء مثل باراشوتات في السماء. اللعنة عليهم من يجعلون
الموت رجل مجنونا. الموت حجر قهرمان.
اشهدي يا إصبعي الصغرى، يا حبة قمح على طرف
كفّي، أنني أكتب مقطوعة كل صباح لحبيب مضى واسمه معقود مثل خيط أحمر في خنصري.
.
زكريا محمد
فلسطين