غُبار
2000
وديع سعادة
الغباريّون
مقفرةٌ الطرقاتُ وهابّون وحدنا. الأرض صارت غبارًا وها نحن نكمل حياةَ
الغبار.
إننا نكمل حياة غبار الأرض. هذا الذي يجب أن يكمل حياتَه أحد، وها نحن
نفعل.
لا نكمل حياة الأرض بل حياة غبارنا. لا نكمل حياة بل موتًا. جئنا لنرافق
الغبار في هبوبه الأخير، نحمله إلى مثواه، وننام معه.
ما كان الأرضَ لا يشبهنا. إنه نقيضنا ونحن أنقاضه. وما جئنا لنكمل تلك
الأرض بل لننقضها. ما جئنا لنكمل بل لننقض.
لا دين قبلنا لا دين بعدنا لا دين لنا. غباريّون بلا دين ولا متديّنين فليس
للغبار غير الهباء. سابحون في فراغ. في الفضاء الذي لا الأرض أُمُّه ولا وَلَدُه.
في فراغ الأبوَّة وفراغ البنوَّة. إننا ذاهبون إلى إلهنا، إلى العدم.
نحن الغباريّون، و هذا ما رأيناه في هبوبنا، هذا ما كان شيئًا قبل أن يصير
غبارًا، ما كان شيئًا قبل أن نصير نحن الغبار:
جمال العابر
العابرون سريعًا جميلون. لا يتركون ثقلَ ظلّ. ربما غبارًا قليلاً، سرعان ما
يختفي.
الأكثر جمالاً بيننا، المتخلّي عن حضوره. التارك فسحةً نظيفة بشغور مقعده.
جمالاً في الهواء بغياب صوته. صفاءً في التراب بمساحته غير المزروعة. الأكثر
جمالاً بيننا: الغائب.
قاطعُ المكان وقاطع الوقت بخفَّةٍ لا تترك للمكان أن يسبيه ولا للوقت ان
يذرّيه. مُذَرٍّ نفسه في الهبوب السريع غير تارك تبنًا لبيدره ولا قمحًا لحقل
سواه. المنسحب من شرط المشي للوصول. المنسحب من الوصول.
العابر سريعًا كملاكٍ مهاجر. غير تارك إقامة قد تكون مكانًا لخطيئة. غير
مقترف خطيئة، غير مقترف إقامة.
سريعًا تحت شمس لا تمسُّه، تحت مطر لا يبلّله، فوق تراب لا يبقى منه أثر
عليه. سريعًا بلا أثر ولا إرث ولا ميراث.
لم يُقم كفايةً كي يتعلَّم لغة. لم يُقم كي يتشرَّب عادات. لا لغة له ولا
عادات ولا معلمين ولا تلاميذ. عابرٌ فوق اللغة، فوق العادات، فوق المراتب والأسماء
والاقتداء.
بلا اسم، فوق النداء والمناداة.
وفوق الإيماءات، إلا إيماءة العبور.
وبلا صوت، لأن الصوت ثقلٌ في الهواء.
لأن الصوت قد يرتطم بآخر. قد يسحق صوتًا آخر في الفضاء. قد يزعج النسمات.
وبلا رغبة. لأن الرغبة إقامة، ثبات.
العابرون سريعًا جميلون. لا يقيمون في مكان كي يتركوا فيه بشاعة. لا يبقون
وقتًا يكفي لترك بقعة في ذاكرة المقيمين.
الذين أقاموا طويلاً معنا تركوا بقعًا على قماش ذاكرتنا لا نعرف كيف
نمحوها.
بقعٌ مؤلمة، أينما كان على المقاعد، بحيث لم يعد يمكننا الجلوس.
المقيمون طويلاً يسلبون مقاعدنا. يحوّلون أثاث بيوتنا إلى قِطعٍ منهم. بحيث
نجلس، إذا جلسنا، على ضلوعهم، على عظامهم.
يسحق المقيمون المقيمين. أما العابرون فلا يسحقون أحدًا ولا أحد يسحقهم. لا
يطأون على كائنات ولا يُثقلون خطوًا على أرض. حتى الهواء لا يلمحهم غير لحظة.
بلا قلق ولا ندم ولا آلهة ولا أتباع. إيمانٌ واحد لهم: العبور.
المتخلّون عن الأمكنة والأوطان والآباء والبنين. كاسرو القيد. مخرّبو
المشنقة المصنوعة من حديد المكان والزمان والانتماء.
إنهم يتساقطون، الواحد تلو الآخر، المتشبثون بالإقامة. يتساقطون بأوطانهم
التي صارت وهمًا. بانتماءاتهم التي صارت كذبًا. بأبوَّتهم التي صارت عبئًا.
بايماناتهم التي تقتلنا، وتقتلهم، وتقتل الحياة.
العابرون لا ضحايا لهم. هل لذلك بات علينا، كي نمجّد الحياة، أن نمجّد
عبورها بسرعة، أن نمجّد الانتحار؟
بخفَّةِ خفقة الطير وانفتاح النسمة للجناح. بخفة انفتاح هواء العبور
واندمال هواء الانطلاق.
عابرون سريعًا، كلحظة انقصاف.
لهم من العصفور صوت، من الغصن نظرة، من الزهرة شميمٌ خاطف.
عصافيرهم للغناء والرحيل، لا للسجن في أقفاص أو تأبيدها محنَّطةً في
واجهات. طيورهم الروح المسافرة، لا الريش المقيم.
وزهورهم العبق الشارد خارج الإناء.
سوى المرتحلين، واللامبالين، والعابثين بالإقامة، والممسوسين، والموتى، مَن
كان سيكتشف جمال العبور؟
وأيّةُ لحظة تكتشف الحياةَ أكثر من لحظة الغياب عنها؟
هل لذلك تجب مصادقةُ الرحيل أكثر من مصادقة الإقامة؟
وهل، لذلك، على حياتنا أن تكون، فقط، تمرينًا على جمال الرحيل؟
أجملنا الراحلون. أجملنا المنتحرون. الذين لم يريدوا شيئًا ولم يستأثر بهم
شيء. الذين خطوا خطوةً واحدة في النهر كانت كافية لاكتشاف المياه.
أجملنا الذين ليسوا بيننا. الذين غادرونا خفيفين، تاركين، بتواضع، مقاعدهم
لناس قد يأتون الآن، إلى هذه الحفلة.
حفلةٌ سخيفة، ورغم ذلك لا يترك المتشبثون بالإقامة مقعدًا!
لكن لِمَ المقاعد، ما دام المحتفلون يبدأون ضيوفًا وينتهون أعداء؟
لنمضِ إذن، بخفَّة، قبل أن تلتهمنا الخناجر، قبل أن نصير طبَقَ الوليمة.
لحظةُ الوصول إلى الاحتفال هي كلُّ جمال الاحتفال. وبعدها، سريعًا، يصير
الجمالُ هو المغادَرة.
الخطوة المغادِرة، هي الأجمل دائمًا.
الراحلون يمتزجون بالنسيم. وإذ نقف نحن، لتشييعهم، فلنشيّعْ معهم ذكراهم
أيضًا. لأن الذكرى تعيق رحيلهم، تعيدهم إلى مكانهم، تجعلهم جمادًا.
الذاكرة تعيق الراغبين في الموت. وتجعل الراغبين في الحياة موتى.
فلندفنها إذن.
لندفن الذاكرة ونحن نغنّي.
إنها حفلة سخيفة في إية حال، ولكن بما أننا وصلنا، فلنغنِّ ونرقص.
ثوانٍ، قد نكون فيها جميلين.
لكن أجملنا سيبقى: الغائب.
منفى اللغة
إذا كانت اللغة وطننا حقًّا، فإننا نعيش في منفى.
أليست هي ما نتحدث به مع أنفسنا لا مع الآخرين؟ ولا يكون لنا تواصل لا مع
ذاتنا ولا مع الآخر؟
اللغة شأنٌ خاص لا شأن عام. نتكلم كي نقتنع فلا نقتنع. كي يقتنع الآخرون
بنا فلا يقتنعون. اللغة نأيٌ لا اقتراب.
المتكلمون ينفون أنفسهم.
والخروج من المنفى هو الخروج من اللغة.
اللغة هي أصوات موتى. وهكذا نرصف جثثًا.
الكلام الحي كان كلام الإنسان الأول. الأول، قبل أن يتكلم.
ظلُّ أن نكون
هي ظلال، هي ظلال. لا تيأسْ. اضربِ الشجرةَ فتسقط الظلال. إقطعِ الأغصانَ
فترَ الشمس.
لكن، هل يجب قطع الشجرة من جذورها؟ أم الاكتفاء بذكرى ضوء؟
الذكرى تكاد تكون كلَّ وجودنا. غير أننا نقطع الأغصان ونبقى الظلال.
وفي هذا السباق من يصل إلى الغروب أولاً، الشخص أم ظلُّه؟
نتسابق، نحن وذكرانا، ثم نرتطم بعضنا ببعض ونختفي.
نصير غبارًا ميتًا. ونحلُّ بعد ذلك في وحل الأحياء.
وحْلٌ لم نشأ أن نصنعه. ولا أن نكون فيه. ولا أن نتركه لغيرنا. ولا أن
نراه.
هي ظلال، ظلال.
إقطعِ الشجرة.
الرغبة
مُسقطُ الرغبات بلغ الهدف. فلا رغبة في مشي بعد، ولا في وصول.
أليس الوصول هو التخلّي عن رغبة الوصول؟ أن تصير بلا رغبة في شيء، فقط
المقعد الصغير الذي تجلس عليه ربما، أو الشجرة أمامك، أو الفراغ الذي بلا مقعد و
لا شجر؟
أليس الوصول أن تبقى حيث أنت؟ أن يكون هدفك مكانك بالضبط، حيث أنت هنا و
الآن؟
أن تتجاوز الرغبة، أليس هذا هو العبور العظيم؟
الرغبات تفسد النزهات. لا يعود أصحابها يرون جمالات الطريق. تصير عيونهم في
مكان آخر. في مكان الرغبة، التي لا تستقر في مكان. الرغبة اللامكان لها. يصيرون في
الغائب، المستلَب، غير الموجود. يصيرون في اللامكان.
الراغبون يقيمون في الملغيّ.
هل يمكن بناء بيت في غياب، وضع كرسي في عدم؟
الرغبات تصنع حفرًا في الروح، تصنع جروحًا. هل يجوز وضع مقعد في جرح؟
إذا كانت الجروح التي حفرَتْها الرغبات على مدى التاريخ، وتسيل منا دمًا
الآن، لم تبلغ مستواها بعد ولا هدفها، أيكون مطلوبًا إذن صنع طوفان جديد من جروحنا
أم دَمْل الجروح؟
هل يجب تهشيم الروح والجسد في الممرات نحو الرغبات المستحيلة، أم الجلوس
والتمتّع بمشاهد الطريق؟
أيجب طلب غائب أم الفرح بعدم حضوره؟
وإن كان لن يأتي، ولن نصل إليه، هل نعيش غياب انتظاره أو نعيش حضورنا في
غيابه؟
ثمّة رقص على الدرب لا يراه الراكضون. رقص يعرفه الجالسون. ثمة رقص خفيّ في
الجلوس.
الساكنون يسمعون وحدهم الأغنية. الضاجّون طرشى ضجيجهم.
في السكون غناء جميل. في الصمت دهشة أصوات. حين تجلس وتصمت تكون تخترع
أوتارًا جديدة.
وولادات، لا تصرخ حين تولد.
وميتات، لا تأسف إذ تموت.
ورقصات، تنتشي من سكونها.
ومسافات، تقطع الدروبَ وهي على مقاعدها.
ومزهريّات، تعبق من فراغها.
في السكون أرض جديدة. والسماء تبزغ من العيون المغمضة.
أحيانًا ينشر الجرح صيفه على البيوت، فتُخرِج نقاطُ دمٍ كراسيها لتستظلَّ
الشجر.
أحيانًا تَخرج نقاطٌ إلى النزهات ولا تعود إلى العروق. أحيانًا، ييبس الدم
على الباب، أحيانًا يضيع، ودائمًا ينزل في غير مكانه: على تراب، على حجر، على جلد،
على قماش، وليس أبدًا على هدفه. فهدف الدم، على الأرجح، ليس الخروج، بل البقاء في
مكانه.
الخروج من مكان ليس نزهة، ليس بلوغًا، إنه ضياع.
والرغبات التي تُخرجنا من بيوتنا لا تمنحنا ظلاًّ ولا نزهة. النزهات
تشرّدنا على الدروب، وتترك منا عظامًا في المجاهل.
هل أقول لا ترغب؟ وكيف يكون ذاك؟ أليس كمن يقول لا تكنْ؟
لكن، أبالرغبة كون أو يولد الكون خلسةً في غيابها؟
هل يقيم الكون في الرغبة، أم يبدأ من النقطة التي بعدها، من الفسحة، ويمتدّ
في فراغٍ عظيم؟
أن تكون حقًا، هو أن تسعى إلى ملء نفسك بالكون أم أن تفرغه منك؟
والهدف، هل تبلغه إن سعيت إليه أم إذا ألغيته؟
ألا تكون وصلت إذ تلغي الأهداف؟
إن بلغتَ رغبةً تلد لك رغبات. فالرغبة إن بُلغت تكاثرت. ولدتْ أطفالاً
مشاكسين. وتركض أنت، تركض ولا تبلغهم، إلى أن تلفظ الأنفاس.
اقعدْ. لا تلهثْ على الدروب.
إلغِ الدرب، تصلْ.
المعرفة
هل نطمئن إذ نعرف أم نزداد قلقًا؟
أفي المعرفة أمل أم يأس؟
هل هي طريق خلاص أم طريق هلاك؟
ولكن أولاً، هل نمتلك يقينًا أم شكًّا؟ حقيقة أم افتراضًا؟ وسواء كان هذا
أو ذاك، هل يقود إلى الخلاص؟
إنما.... أي خلاص؟
كلما ازددنا معرفة ازددنا شكًّا، فكل معرفة شك.
ومن يعرف أكثر يقلق أكثر، وييأس أكثر، ويهلك أكثر.
كل معرفة جديدة شك جديد ويأس جديد. حتى لكأنّ التفاؤل ليس سوى الجهل. حتى لكأنّ
الجهل هو الخلاص!
المعرفة ليست ضوء النفق. شعاعٌ ما أن يكشف عتمةً حتى تتبدّى عتمات، مجاهل.
والذين يدخلون نفق معرفتهم ليس أمامهم غيرُ العتمات، والموتُ في عتمة.
الجاهل لا يدخل الأنفاق ولا يحتاج إلى ضوء. يبرئه جهله، فيموت على مدخل
النفق، في الضوء.
هل الجهل هو الضوء، والمعرفة العتمة؟ وهل بسبب المعرفة ينتحر المنتحرون
ويَقتل القتلة ويموت الذين لا يجرؤون على الإنتحار أو القتل في الزاوية الصامتة من
وحدتهم؟
وحدتهم التي جعلوا فيها زاوية للكلام، وزاوية لوداع الكلام؟
كل معرفة جهل، كل جهل يقين.
كل معرفة قلق، كل جهل اطمئنان.
ما يلغي فروقهما، ما يوحّدهما، هو الهلاك.
غير أن العارف يهلك في قلق معرفته، أما الجاهل فيهلك في اطمئنان الجهل.
الانشقاق
تدوس في طريقها كلَّ شيء، القافلة. تمعسه بصمت، بعمى.
سَيل الجماعة جارف. قافلة الجماعة ماعسة. تسحق الفرد ومأواه الضيّق للسهو
أو النوم.
كيف يمكن إنقاذ الزهرة الداخلية في هذا الجرف؟
هذا البهاء اليتيم كيف يمكن إنقاذه؟
الطافي يحيا. الغارق يموت.
لكن هل لموجةٍ أن تنفصل عن بحرها وتسكن وحدها على الشاطئ؟ هل لنقطة ماء
منعزلة أن تحتقظ بلؤلؤة الأعماق؟
الآخرون ليسوا جحيمنا فحسب. الآخرون هم عَدَمنا.
الموت هو الآخر. الضحايا صنيع الجماعات. أما الحياة النحيلة فتكمن في
العتمة العميقة لأرواح المنعزلين.
كان ثمّة جمال، ينبثق من الشرود.
الإنحراف
المنحرفون أبدعوا قِيَمنا، أودعونا حضارةً سريّة جميلة، في مقابل حضارة
يُستحال إحصاء جثثها.
المنحرفون، الذين ماتوا في المصحات أو في السجون، هم آباؤنا الحقيقيون.
الأسوياء جرفهم النهر. غير الأسوياء ظلّوا على الشاطئ.
هناك بالضبط، على الرمل و الحصى، مقاعدنا، لا في النهر.
إذا خرج من الماء مقعد، سرعان ما يسيل.
مقاعدنا على الشاطئ، نجلس عليها.... أما الماء، فنمدُّ له أقدامنا.
صُنّفوا هامشيين، حطبًا لفظه السيل إلى الضفاف، ورقًا، خِرقًا، مزقًا ساقطة
من الثوب.
صُنّفوا للنبذ، للرمي، للخلع من قماش المدعوين، للمنع من الوليمة.
صُنّفوا للحرق.
لكن، ها هو العالم يختنق. إذ كيف يتنفّس العالم بلا هامشه؟
المنبوذون هم رئة الحياة.
قلب الحياة، هو الهامش.
هل نخرج من قلب العالم؟
نخرج، ما دام مليئًا بالدماء.
نسكن في اليد الملوّحة للبعيد، في الشَعر المتطاير، في العين اللانهائية
الامتداد.
حينذاك نكون في القلب. القلب الأبيض، النسيميّ، السابح في الهواء.
في نقاء الفراغ.
في قلب الحياة عِرق للحق والخير والجمال، عرق منشقّ معزول، اسمه الاختلال.
يمشي المختلّون في العِرق خفيفين، صامتين، لئلا يتفتّق العِرق ويفسد. لئلا
ينفتح على العروق الأخرى، الدموية. لكي تبقى الدرب الضيّقة جميلة وسريّة.
أرواحنا الصامتة الحزينة هي الجميلون في السر. الماشون في عرق الاختلال.
أرواحنا الجميلة، هي المختلّون.
بات علينا تخريب هذه الطريق وشقّ طريق جديدة. نسفُ الكتلة الهائلة التي
تكدَّست مع الزمن والعادة واستقرت في عقولنا مفهومًا واحدًا ونهجًا واحدًا للحياة.
صار واجبًا ابتداع عصر مغاير.
أليس على العصور أن تتغير، على الأقل كما تتغير جلود الحيَّات؟
تاريخ بأكمله، قاد إلى إلغاء التاريخ!
تاريخ جماعي ألغي تاريخ الفرد. وتاريخ فردي ألغى تاريخ الحياة مع الجماعة.
رؤية واحدة، طريق مشتركة، قطعت أرجل المنحرفين عنها، معست المتباطئين،
اقتلعت أعين الناظرين في مكان آخر.
كان النبع خادعًا، والمصبّ ضحيّة خداعه.
نبعٌ واحد و مصبّ واحد لتاريخ بأكمله. بحيث امتلأ النبع والمصبّ بالنفايات
والجثث.
بات واجبًا ابتداع نبع ومصبّ جديدين.
سلامٌ للمناطق النائمة في الدماغ، الوادعة كالفراغ، المسحورة كالعدم.
سلامٌ للخلايا التي لم تستيقظ بعد. إنها خلايا السلام.
التاريخ يشهد على أن كل خلية جديدة تستيقظ، تبتكر طريقة موت جديدة.
هذا العقل يكاد يفني الأرض.
سلامٌ لخلاياه المنحرفة، سلام للجنون.
تجب إعادة ابتكار الأدغال
وبناء عصر آخر يضع مداميكه المنبوذون، وتحرسه أرواح المجانين.
المنفى
الإنسان كائنٌ عاقل؟ صفة ناقصة. ما عادت دقيقة. الإنسان كائن منفيّ.
بات صعبًا تحديد موطن للناس. المنفى اتسع. الأرض كلها صارت منفى.
ما عاد هناك وطن. هذه تسمية أضحت من التراث. من الذاكرة الآفلة. البشر
يقيمون في منفى لا في وطن.
كان في الماضي منفى جماعيّ ومنفى فرديّ. صار الكلُّ كلِّيي النفي: منفيين
في الخارج ومنفيين في الداخل ومنفيين في الجماعة ومنفيين في الذات.
لم تبق في الخارج أية إشارة إلى أن هذا المكان، أو ذاك، هو مكاننا.
ولا في الداخل إشارة إلى أن الذات لا تزال تخصُّنا.
صار صعبًا، بل مستحيلاً على المرء تحديد ذاته، فكيف تحديد مكانه؟
إذا الذات نفسها منفيَّة، هل يمكن التحدُّث عن مكان؟
سيلٌ من الخطى على بلاط بارد. دفقٌ راكض يطوي الأمكنة. مشيٌ لا يحتفظ بأي
مكان.
لا درب. فقط تشعّبات. وخطوات تتشعّب على التشعّبات كلها ولذلك لا تسير.
لم يبق للأقدام طريق تألفه وزاوية تتمدّد عليها. درب العودة إلى مكان أليف،
بشوق و بطء وفرح، ما عادت ممكنة. صارت ممحوَّة. محتها الخطوات الراكضة وموت الألفة
واستحالة العودة. محاها غياب المكان.
المكان الذي غاب كمساحة، وغاب كحضور.
ليس ممكنًا، بعد، أن تكون حاضرًا مع آخرين، لا بينهم ولا فيهم. لم يعد لديك
كلام لهم ولم يعد لديهم كلام لك. إذا تكلّمتَ لا تتكلم إلا مع ذاتك ولو ظننتهم
يصغون. وإن تكلّموا لا تسمع إلا صوتك ولو اعتقدوا أنك تصغي. لا تكون إلا فيك ولو
كنت في جمهرة. ولا يكونون معك ولو كنت بينهم... لستَ إلا منفيًا وليسوا إلا
منفيين.
منفيٌّ في المكان ومنفيٌّ في الناس. منفيٌّ في الخارج ومنفيّ في الداخل.
مثلّث المنفى: منفى المكان ومنفى الآخر ومنفى الذات.
هل تجد ذاتك وطنًا لك؟ قُلْ. هل ذاتك مسكن؟
هل بينكما لغة؟ أأنتما متفاهمان؟ أليفان؟ تنامان على سرير واحد؟ تترافقان
على الطريق؟
إني لا أرى غير عداء وخيانة.
الذات لا تخلص لصاحبها، الذات تخون. لا ترافقه، تهجره، لا تنقذه، ترديه.
لا أرى غير بُعد وغياب.
لا أرى رفاقًا سوى الآفلين. لا رفاق إلا الموتى.
غابت الأمكنة وغاب سكانها. لم يعد ثمة مكان ولا قاطنوه. صار خطأ ما تعلمناه
عن مفهومي المكان والزمان، وعن الإقامة والاغتراب. تغيَّر كل شيء. انقلبت الحياة
والإنسان والأشياء على مفاهيمها وعلى نفسها. دخلتْ في خلطٍ فوضوي حتى الإلغاء.
إلغاء المكان وإلغاء الزمان وإلغاء الآخر وإلغاء الذات.
دخل الكل في منفى كليّ. دخل الكل في الغياب.
وكان هذا الغياب سيكون جميلاً لو لم يكن جرفًا جماعيًا، لو لم يكن التزامًا
بالركام.
كان جميلاً لو للغائب خصوصية غيابه، وللملغي فردانيّة اختيار الإلغاء.
فللغياب الاختياري نصرٌ على الحضور. للمنفى الخاص نصر على الانتماء. للغياب
والمنفى نصر على الجماعة والاستيعاب والامتصاص.
هكذا، يكون المنفى نصرًا نادرًا. يفوز المنفيّ بذاته ولو ليس له رفاقٌ إلا
الآفلين، لو ليس له رفاق إلا الموتى.
هكذا يكون للفرد حضور.
هكذا لا يكون للفرد حضور إلا بغيابه!
الألم
إن أمكن تعريف التاريخ يمكن القول: إنه تاريخ الألم.
ألم الفرد وألم الجماعة. ألم الارتباط وألم الانشطار. ألم الذات من الآخر
وألمها من ذاتها. ألم الناس وألم الأرض. فالأرض، مثلما تتألم المخلوقات منها،
تتألم هي من المخلوقات... وعلى هذه الجروح المتبادلة تُرصف عمارة التاريخ.
منذ الفجر الأول كان الألم. قامت الأرض على صرخته. تكوّنتْ ونمتْ على هذا
الصوت. كأنها من دونه لم تكن. كأن الأرض تكونت من فاجعة، من خطأ. كأن ما يلد، وما
ينمي، وما يفرض الاستمرار، هو الخطأ.
وكأن الأرض، لو كانت فرحة، لتبددت!
لا عمر لغير الألم، وقد يكون هذا ما يعنيه الخلود أيضًا.
خلود الخطأ. ويصحُّ كذلك: خطأ الخلود.
هل يحتاج تاريخ الألم إلى براهين؟ التاريخ قدَّم البراهين بنفسه، والفلسفات
والآداب والفنون والمسيرة كلها فعلت ذلك بجدارة. ربما يحتاج تاريخ الألم إلى شيء
آخر: نقضه. ربما لمحو الألم ينبغي محو التاريخ! أو فعل ما يمكن: وقف هذا الركض في
مسيرة سمجة، والجلوس للتفرج على الطريق، والضحك.
هل كان يمكن، بجنون ما، الانقلاب على هذه المسيرة وبدء تاريخ معاكس؟ هل كان
يمكن، في لحظة انحراف، تغيير الدرب؟ ألم يمرّ في الأزمان وقتٌ مبارك، ساعةُ غفلةٍ
عظيمة؟
ألم يكن ممكنًا، في لحظة ما من التاريخ المديد، انتصار المجانين على
العقلاء؟ الفوضويين على المنضبطين؟ الجالسين على الأرصفة على محتلّي الدروب؟
ألم يكن ممكنًا أن تكون الأرض ساحة احتفال؟ أن تكون الأمكنة حلبات رقص؟
أكان مستحيلاً، حقًا، القضاء على الألم؟
ولو حدث ذلك، كيف ستكون الأرض؟ ألن تفرح حينذاك بوجودها وترقص؟
لكن خطأ ما يحكم الأرض ومخلوقاتها. خطأ كبير، هائل، بحيث لا تمكن مقاومته.
خطأ يحكم الأرض و يجرُّ البشرية إلى أخطاء. يجرّها إلى التدافع والصراع،
إلى اقتراف خطيئة الطموح، إلى الإثم والألم.
فالطموح ليس سوى إضافة ألم وإثم: ألم للذات وإثم للآخر. إذ على سكينة الذات
تطأ خطاه وعلى الآخر يشقُّ دربه. الطموح يخضُّ صفاء النفس ويعكّر ماءها. يوحل
الذات، فتصير لا ماء ولا ترابًا. تصير ألمَ الوحل الطامح إلى أن يكون إما ترابًا
وإما ماء. ألم الوحل الفاقد كينونتَيْه.
الطموح صفة الناقص. أما الممتلئ فيهدأ ويجلس.
كلُّ آتٍ يؤلم، وكلُّ ذاهب.
ما يلتصق ألم، وما ينسلخ ألم.
النقطة التي تسقط عليك تنزل من ألمها الأول، والنقطة التي تتبخر تذهب إلى
ألمها الثاني.
على جلدة الروح بقع آلام من الناس الذين التصقوا، ومن الناس الذين انسلخوا،
ومن الأشياء والأفكار والرغبات والانهزامات والانتصارات.
ولكن، من يحلم بأن يهزم الآخر في النهاية، الناس أم آلامهم؟
من يحلم بأنه ذاهب إلى مثواه خاليًا من البقع؟
ما سيصل أخيرًا ليس الجسد النظيف ولا الروح الصافية. ما سيصل هو الوشم.
بقعة كبيرة من الآلام والآثام، تُحمل وتوضع في حفرة.
وكان جميلاً حقًا لو سمح الخطأ بصواب واحد: أن تلقي نظرة أخيرة على بقعتك
السوداء، وتضحك.
النسيان
ذاكرة أم حياة؟ شقاء أم نسيان؟
سؤال يقرن الموت بالذاكرة والسعادة بالنسيان... لكن، أليس هذا هو جواب
الوجود، الحالّ محل "الفكر" الواهم وهْبَ "الوجود"؟
أنا أنسى، إذن أنا موجود!
جواب جديد، بعد تاريخ طويل من إلغاء الوجود بالفكر والذاكرة.
سعادة النسيان:
للنسيان خفة طيران في قلب السعادة لن تكون مطلقًا للذاكرة الرازحة تحت
أثقال. خفة رمي الثقل ومحو اللطخات لاستقبال الصفاء.
سعادة اللحظة، إذ ترمي عنها ما قبلها وما بعدها. ما علق بها وأعادها إلى
غيرها. فصلها عن ذاتها. جعلها لحظةَ آخر لا لحظة ذات. شطبها.
سعادة اللحظة التي لا تستقبل من السابق ما يخدّشها، ولا ترسل ما يخدّش
اللاحق.
الماقبل ثقلٌ على الآن، والمابعد ثقل. الماقبل والمابعد، إذ يحلاّن في
الآن، يميتانه.
ما كان هو الآن موت، وما سيأتي.
الحياة هي: الآن.
مأساة الذاكرة:
قد لا يُفرح التذكُّرُ والتذكير أن الحقد، الثأر، القتل... بنات ذاكرة.
غير أن الذاكرة تفظِّع أكثر: تقتل صاحبها أيضًا.
المتذكّر هو ظلُّ ماضيه، ظلُّ غيره، قتيلُ ذاته، ميّتُ حاضره.
حين نتذكر نصير الموتى.
المتذكرون هم موتى موتاهم.
شقاء ذاكرة السعادة:
لا تتذكّرْ غزالةً اختفت في الأدغال، ذلك لن يجعلك غير فاقد غزالات أخرى
تعبر الآن أمامك.
ولا تطارد الذي غاب، ذلك يجعلك ذا شقاءين: شقاء الغياب وشقاء المطاردة.
اقعدْ في الغابة، بلا سلاح، ولا تفكير في غنيمة. حينذاك ستأتي الغزلان
وتأكل من يدك.
وإن لم تأت، تكون على الأقل ربحتَ هناءك.
ذاكرة الرغبة:
من يرغب يصير ضحية رغبته. ومن يطلب استحضار رغبة غربت يصير ضحيتين: ضحية
الرغبة وضحية ذكراها.
الذين بلا رغبات هم الأحياء حقًا.
لا شيء يقتلهم ولا يتركون ضحايا.
العالم سصير لهم إذ يأنفونه. فالعالم، الذي لا يُملك، له سرٌّ لامتلاكه،
هو: رفضه.
يطيرون عاليًا، فوق، الذين بلا رغبات. ومن أجنحتهم ينزل نثار العالم.
ذاكرة المكان:
وهل تكون هنا وأنت تتذكر هناك؟
المكان الذي جئتَ منه مضى، الذي تذهب إليه لم يأت. المكان هو، فقط، هنا.
لكنك ماشٍ. وما هو هنا يصير هناك.
إذن طريق بلا مكان. إذن المكان: نسيان الأمكنة.
إنْ صدف أن نسيتَ المكان، هل تبقى في منفى؟
ذاكرة التاريخ:
نحن لسنا ذاتنا. نحن التاريخ محشوًا فينا.
نتاج أفكار السلف، تعاليمه، قواعده، قيوده، زنزانته.
التاريخ سجَّاننا وجلاَّدنا.
وإن كان لهذا الجلاد حفلٌ فرح، فنحن فيه الدمى المتحركة. إن كان هذا الملك
يلعب الشطرنج، فنحن بيادقه.
نحن لسنا نحن. نحن هم متلبّسيننا.
من مات لم يمت. إنه حيٌّ فينا ونحن موتى فيه.
فإن أردت أن ترى التاريخ انظرْ في وجهك. ترَ ذاكرته و كينونته، وترَ عدمك.
اخلعه عنك، إن أردت أن تكون.
ذاكرة الآباء والبنين:
منذ ولادتهم نبدأ بنفيهم عن ذاتهم. ندقُّ فيهم مسامير ذاكرتنا وندرزهم بصور
الموتى.
منذ ولادتهم نبدأ بقتلهم.
نقتل أبناءنا مثلما آباؤنا قتلونا. نمنحهم إرث الذاكرة التي ألغتنا
وستلغيهم. نفتح لهم بوابة المملكة، باب السجن، ونمنحهم القيد والبيدق.
نمنحهم البيت الذي يتمشى فيه الأموات.
من يحب أولاده لا يورثهم صورته، لا يهديهم ذاته، لا يترك لهم ذاكرة.
من يحب أولاده يمنحهم النسيان.
ذاكرة الوصول:
أمُّ الشقاءات، فكرة الوصول. إذ لا وصول، لا نقطة، لا مقعد، على الطريق.
ليس المشي ما يُتعب، بل فكرة الهدف.
آن تؤخذ بها، يفوتك الزهر على الدرب وشدو الطير وجمال رنّات خطواتك.
الهدف يسرق منك النزهة ولا يمنحك ذاته. كلما اقتربت منه ابتعد، كلما أطللت
عليه غاب.
امحُ ذاكرة الوصول وتمتَّعْ بالمشي.
بل انسَ. انسَ الهدف وانسَ الدرب.
للنسيان خفة محو الطريق، وتأبيد لحظة عدم السير.
أنا أفكّر إذن أنا موجود؟
لا. أنا أنسى إذن أنا موجود.
النسيان، هذا هو الوجود.
الصمت
لماذا أمضى نيتشه سنواته الأخيرة صامتًا منعزلاً؟ هل أراد أن يقول إن الصمت
هو أعلى درجات الكلام؟ التعبير الأفصح عن لا جدوى التخاطب؟ أن ينفي إمكان التواصل
بين الذات والآخر؟ بين الفرد والجماعة؟ هل كان صمته يأسًا من اللغة ذاتها، من
محمولاتها ومدلولاتها وتناقضاتها وخياناتها، من نبعها ومصبّها معًا؟ أم أن الصمت
هو الاحتفاء الوحيد المتاح بالحياة، والتشييعُ اللائق لمن يريد أن يودّعها بإخلاص؟
لماذا صمت نيتشه كل تلك السنوات؟ ولماذا غادر رامبو الكلمات؟ والكثيرون
غيرهما لماذا وضعوا هذا الحدَّ المرعب بين اللغة وخرسها، بين الذات والآخر، بين
الحياة وعدمها، بين الإقامة وشطب الوجود، هذا الكائن الصغير الوحيد بين عدمين؟
ولكن، هل من حدٍّ، أو نقيض، بين الصمت والكلام؟ ألا يكون الكلام في الغالب
أخرس والصمتُ في الغالب مطلوق اللسان؟ أليس السكوت لغة داخلية ضاجَّة والقولُ
أصواتًا ضاجَّة أيضًا؟ أين الحدود إذن؟
وإنْ لا حدود، إنْ هباءٌ واحد يجمع الصامتين والمتكلمين، ما معنى أن نختار
الصمت وأن نختار الكلام؟ ما الفارق إن تكلَّمنا أو صمتنا؟
غير أنَّ الصمت يخفّف الثقل؟
كلَّما نقص صوت، أعتقد أن الأرض تشعر براحة.
الذين يصمتون يرتفعون عن الأرض قليلاً، لا تعود أقدامهم وأجسادهم ملتصقة
بها. الذين يصمتون ينسحبون من جمهرة الأرض كي يحتفوا بذاتهم. كأنَّ الاحتفاء
بالذات لا يتمُّ إلا بالعزلة. كأنَّ الاحتفاء بالحياة لا يكون إلا بالصمت.
ألا يمكن الواحد أن يحتفي بذاته مع الآخرين؟ إنه احتفاء فرديّ، بلا شريك،
هذا الذي تقف فيه الذات أمام نفسها وتغنّي. تختلي بروعتها، بخوائها، وتنتشي. يخرج
من صمتها النشيد الجميل النادر، البدئيّ، السريّ، النقيّ. النشيد الذي لا يقول
شيئًا، لا تراوغه الكلمات، لا يحكي ولا يُسمع.
الذات تحتفي بغيابها عن الآخر. الذات تحتفي بالغياب.
هل هو الاختفاء إذن ما يُطرب له؟ هل هو الخواء ما تقام له الاحتفالات؟
هل الاحتفاء هو الاختفاء؟
بصمت الشجر والحجر تطرب الأرض وبصخب البشر تمرض. بالسكون تورق وتزهر
وبالضجيج تموت. ليس صحيحًا ما تعلَّمناه. جوهر الحياة ليس الحركة بل ربما السكون.
المياه المتخبّطة الهادرة لا تقيم ولا تحيي إنما تجرف وتقتل. لا يُطلع الماءُ
حياةً إلا إذا رقد.
على الحافَّة، على الحدّ، يمكن أن نكون. على الحدّ بين الذات والآخر، بين
الخارج والداخل، على العتبة. هناك قد تكون حياتنا على الحدّ الضئيل النحيل المسنون
كشفرة.
الحياة، على الأرجح، تبدأ من النقطة الصغيرة الممحوَّة. النقطة التي تكاد
لا تُرى، بين احتضار الصوت وولادة الصمت. بين انتهاء الكلام وبدء السكون.
هناك ينتهي التناسل الخارجي ويبدأ التناسل الداخلي. تبدأ ولادة الحياة التي
تخصُّنا، العالمُ المعاد تركيبه، المستحيل أن يكون في مكانٍ آخر.
في النقطة الممحوَّة يولد كوننا.
على الشفير، حيث لحظة الانبثاق ولحظة السقوط توأم. حيث الولادة والاحتضار
واحد. حيث الوجود والعدم في نقطة نحيلة جدًا، على رأس شفرة.
ولكن، من يقوى على الحياة هناك؟
من يستطيع أن يحيا على شفرة؟ أن يُنجي لحظة ولادته من لحظة موته؟
والأرض، هل لذلك مكدَّسة بالجثث؟
فلنصمت قليلاً. أصواتنا أودت بنا إلى هنا، إلى هذا الجحيم. إلى القتلى
الساقطين بالكلمات، بالخطابات، بالشعارات. إلى المعذَّبين في زنزانات الكلام
المقفلة. المشنوقين باستحالة وصول الصوت. المرميين في فراغات حائرة، حيث لا سقفَ
صمتٍ ولا فضاء كلام.
الصامتون منتحرون أيضًا. صحيح. لكنهم يتوحدون مع ذواتهم على خشبة الانتحار.
لو يصمت العالم الضاجُّ، قليلاً. ماذا يحدث لو صمت العالم؟ لو اختفى ضجيج
البشر لحظة؟ أما كانت الأرض تستعيد بعض فتوَّتها، بعض صحتها؟
هذه الأصوات تنشر الأمراض.
إذا كان هناك من يريد فعلاً أن ينقذ البشرية فليأمرها بالصمت.
الأرض لا تفتقد غيرَ مخلِّصٍ واحد، يخلّصها من الضجيج.
المنتحرون
مقتحمو الحواجز والمخاوف والمحرمات، فاتحو عتمة النفق ببرق عبورهم،
المنتحرون، قديسونا.
الذين لم تسعهم الحياة، ففتحوا فسحة في الموت.
لم يملكوا حياة، فملكوا موتًا.
تعالَوا عن هبة، عن ضيافة حدثت بالصدفة، عن مائدة كانوا هم طبقها، وصفقوا
الباب وراءهم و غادروا.
تركوا المقاعد و ثرثرات الوعود، وذهبوا إلى صمتهم.
أذابوا ملح الروح ودفعوه إلى الشلال، رموا خبز الخلاص للأسماك، أسكتوا
الحفيف الشرس للدماغ، وسكنوا.
هناك خبل ما، قالوا، جاء بنا إلى هنا، وخبل سيأخذنا، فلنذهب بأنفسنا، لنكن
نحن الخبل.
وعلى أطراف عبورهم كانت تُرى فراشات سوداء، كان يُرى خبل البقاء.
تركوا للفَعَلَة أن يرثوا ويورثوا، وذهبوا إلى الخواء. الخواء الواقف في
الأعلى، فوق كل إرث و كل مُلك.
الخواء المظلم المخيف، الذي أضاءه عبورهم وجعله صديقًا.
للمنتحرين زاوية، مقعد يستريحون عليه، في الفراغ.
ولهم بيت هناك، وشجر، وأرض لا يعرفها أحد.
لهم سُطيحة في العدم، لا يستطيع الجلوس عليها غير الموتى. وياسمينة عالية
أمام بيتهم، لا يمكنهم شمَّ زهرها إلا إذا صاروا هواء.
للمنتحرين غنمٌ ضلَّ، ويذهبون ليرعوه.
وهناك يحتفلون بعرسهم، بلا عروس ولا عريس ولا أبناء. يحتفلون باستحالة
التزاوج، بغروب النسل، بالأرض المنقرضة.
وكلما سقط واحد منهم في الماء ولدت موجة، وكلما هوى واحد في فضاء هبَّت
نسمة. المنتحرون يبتكرون بحارًا ورياحًا جديدة.
ومن الحبل إذ يتدلون، يملأون المسافة الفارغة بين السقف والبلاط. يضعون
شيئًا في العدم.
والجثة حين يحملها الحاملون، يجدون ما اعتقدوه وراءهم يمشي أمامهم. يجدون
الجثة الميتة تسبق الجسد الحي، والماضي يمشي بعد المستقبل، والموت يتقدم على
الحياة. يجدون الحياة في الجثة لا في الجسد.
لا ينتحر غير من طفح بالحياة. من طفحت فيه الحياة فاندلقت.
ولا ينتحر غير من يعلو على الموت. من يسوده.
المنتحر يهب الموت معنى. ويدحره.
من ينتحر يترك لطختين، واحدة على وجه الحياة وأخرى على وجه الموت. يترك
آثار سيادة.
وهل هناك سيادة غير هذه؟
لكن السيادة ليست مطلب المنتحرين. المحو مطلبهم. محو سيادة الحياة وسيادة
الموت. سيادة من جاء بهم وسيادة من يذهب بهم. سيادة الآخر وسيادة الذات.
المحو الذي هو سيادة وجود، فعل حريّة.
المنتحرون قدّيسونا، سادة المحو، سادة الخواء.
وإذ يسلّمون روحهم للخواء لا
يكونون يسلّمون حياة بل إدانة. ولا جثة بل اسم قاتل. ولا خلاصًا بل هباء.
إذ يسلّمون أنفاسهم يسلمون الفراغ.
..