باسم عبد الكريم العراقي
{ اللغة الصوفية في ومضات للشاعر المغربي" الحاج محمد "}
.................ـ دراسة سيميائية مقاربة ـ...........
تُعرف اللغة باقتضاب شديد على أنها "وعاء الفكر" وتعبير عن
الهوية الثقافية للشعوب التي تتداولها، غير ان للغة الصوفية خصائص فنية تميزهاعن سواها ، اكثرها طغيانا هي
الرمزية كعنصر تعبيري
مركِّبٍ لبُناها الدلالية
،التركيبية ، كما انها ركناً اساساً من
اركان بنيتها الصورية الشعرية.ومن
خصائصها الاخرى انها
ايحائية الاشارات ، كاسرة للعلاقةالمعنوية ( دوال / مدلولات )المعجمية ،
منقطعة عن ماقبلياتها الجمالية /البلاغية، ومرجعياتها الذوقية / التراثية ،فلا
رقابة للوعي عليها، وهي لغة مشفرة مكثفة الدلالات ، مكتظة بالازاحات ، ماورائية
الواقع ، متعارضة مع عقلانية المعايير
الفهمية والقياسات ، متعالية على منطقيةالتأويلات ، تتسم بالغموض والابهام مما
يقربها ظاهرياً في الاقل من اللغة السريالية لولا سمتها الروحانية الحدسية ، فهي
تخاطب الوجدان والعواطف لا الإدراك والوعي ،
وتفتح الرؤى على الخوض في ماهية
الوجود مافوق الطبيعية ، والبحث عن كينونة
الانسان المتسامية على ماديات النوازع وغرائزيةالرغبات
وللشاعر الحاج ،العديد من النصوص
الومضية الصوفية اللغة, التي سيكون بعض منها موضوع هذه الدراسة ، للتعرف على
غائيته المسكوت عنها ، من توظيفه هذا (الوعاء الفكري ) لغةً لكتابته تلك النصوص
.
ففي ومضته :
((كانت..
تحمل صمتها..
في جرة النطق
وخمر لعابها..
فاح بالسر..))
جاء بتعالقات نحوية كاسرة لما تعارف عليه دارسو اللغة في منطقية
العلاقةالمعنوية بين اركان (الجملةالمفيدة ) لكي تفيد مايفهم من دلالات ، مما جعل
جمل الومضة عصية على الشرح والاستدلال ، ففي جملة ( تحمل صمتها في جرة ..) لا صلة
او رابط معنوي تعاملي بين معمول العامل (
تحمل)/صمتها،ومعمول العامل(في)/جرة،فالجِرار لاتوضع فيهاالا الاشياء المادية حصراً
، وكذلك لاتعالقية التعامل
بين(فاح)المتعدي بحرف جر(الباء)ومعموله(السر)،وهذااللاتعالق يتأكد في
لامألوفيةالتضايف بين المضاف (جرة) والمضاف اليها(النطق)،ففعل الفوح انما يرتبط حسياً
بالمشموم لا بالمنطوق ، وفي لغة الشعر الحديث يكون الشاعر قد قام بازاحات مكثفة في
تراكيب بنيات تلك الجمل لخلق مقاربات دلالية لاتتكشف معانيها الا للنخبة ممن
تعمقوا في دراسة اسرار فنون اللغة الصوفية وهؤلاء بدورهم ستكون لكل منهم خصوصيته
القرائية والتأويلية لتلك الجمل / تعددالمعاني
ونلاحظ هذا اللاتعالق ايضاً بين ركني التشبيه في :
((احتاجك ...
كمستحيل أنا ...
بحضورك ))
فالتوازي في حقل التقارب الوصفي
يتقاطع في ( كمستحيل انا)،اي بين المشبه به(مستحيل)/ غير محدد الدلالة ،
والمشبه(انا)/ محددالدلالة .
وتتجلى خصيصة مخاطبة الوجدان والعواطف لا الإدراك والتفكير، في شعرية
اللغةالصوفية في ومضته:
((تعالي ..
نلبس كلانا كلينا .
نمزق الوجود سرابِلاً.
لنكونا...))
حيث الانعتاق من مادية الوجود الواقعي ، والتسامي بالاتحادالروحي بين
المحبين (نلبس كلانا كلينا / الفاعل(كلانا ) هو ذاته المفعول به( كلينا) ، لبلوغ حالةالكينونة( لنكونا) في عالم ماورائي
/ هو مايُتضام تنافراً مع الفعل نمزقق .
والشاعر في ومضاته ادناه يوحي،يلمح لدلالات مقاصده ،من خلال إثارةأحاسيس
المتلقي، غير مهتم بتقريب المعاني إلى ذهنه :
ففي ومضته:
((عشقي ضرير. ..
يهابه خبث النور. ..!))
فالعشق يترفع عن مرئيات الجسد/ الغرائز ( مزاح دلالياً عن :ضرير )، لذا
يخشاه من يدعي الطهر ( مزاح عن : خبث النور )
وفي اخرى :
((انا..
رفيق معناكِ..))
يسمو بعلاقته بالانثى(رفيق)،فهي عنده قيمة وجودية( معنى )
ويؤكده في :
(( صوتك ..
قراءات ..
ووجهك معنى..!))
فبالاضافة لغرائبية / لامألوفية الصورةالشعرية،تنبرى الاشارة
( معنى ) لتمثل معادلاً دلالياً لما يرسمه الاثران الماديان
للمخاطبة ( صوت / وجه ) من كشف
لحقيقة قيمتها الوجودية
( القراءة : التعرف على
الاشياء/اكتشافها)
وومضته :
((أراني داخلي ابعثرني ..
ما كان منك يجمعني..))
استغراق في عالم خيالي منسحب من واقعه المحسوس الخارجي، الى ضديده
اللاواقعية ذاته اللامحسوسةالداخلية، حيث الصراع محتدم بين العدم(ابعثرني)و نتاج
تقاطعه مع ذلك الواقع ،
والوجود(يجمعني)نتاج اللاواقع ، فهي (رؤيا) هنا لاتتحقق الا فيماوراء المادي
الملموس .
وفي ومضة صورية :
(( ماذا لو .. !
همس البعد ...
بيننا قربا..
أشعلنا المسافة..
في مدانا شوقا..
وشرب كلانا منا ..
حتى الثمالة ...))
ظاهر الومضة فيه تهشيم أركان الصورة الشعرية المرسومة وفق موروث القياسات
الجماليةالبلاغية ،(فالبعد) لااقرب منه فهو ( يهمس ) ، ( المسافة / اشارة اخرى
للبعد) يمكن ( حرقها/ تبديدها ) بالاشتياق للحبيب ،اضافة للاعقلانية المعنى في(
شرب كلانا منا )
اما تحتانية معناها فليس متاح الوصول اليه الا للنخبة ممن وقفوا على اسرار
بنى الاسلوب في الشعر الحداثوي وما بعده .
وفي هاتين الومضتين :
((فراغ شارد..
في مدى الضوء..
ومجهول يتصيد..
بقايا الدفء..
بين معالم الضد..))
..و
((أودع الوقت فيك..
من ثقوب صمتي ..
وألوك حرفي المذبوح ..))
تتبدى لاعقلانية اللغة جلية ، فلا
مجال مع دنوها من السريالية، لتأويل دلالاتهااو مقاربة معاني اشاراتها ، فهي
مترفعة عن اللغة المؤسساتية وضوابطها
القياسة ومعجمية دلالاتها .شاردة عن عالمها الواقعي، إلى عالم روحاني خاص
وتسري السيميائية الصوفية، على
سائر ومضات الشاعر التي اجرى ثيماتها في ركاب هذه اللغة .
ـ باسم الفضلي العراقي ـ