باسم عبد الكريم العراقي
بنية تماهي الغائب الحاضر
دراسة تحليلية في سيميائية نص "تثاؤب الاقدار"
للشاعر العراقي "باسم
جبار"
النص :
(( نوافذ غرفتي مظلمة
لاتدرُّ الا بخرافة إسمها
الزمن يسير
غرفة تئن من ادوائها
لاتجول فيها الا اشباح
اوهامي العرجاء
حتى مصباحها اضحى
خافت الضياء
يزدحم بمواكب الحزن
قيد يشنّقني
يرهقني صعودا
فأنتفض مرتعشا ...كصوفي
ثقل الوجد عليه
يروم خرق الاسباب
تقعده الاقدار
يتصارخ كل شيء فيه
قد ملَّ تثاؤب أقداره
أمام إحتراق سفنه
على شوطىء الحرمان
يلتصق بأحدى زوايا غرفته
وله وجيب يكاد
ان يشق صدره
يرتجف من سوط المُنى
يهوى على ظهره الخمسيني
بأزيزٍ كأنفاس الموتى
تشكو عفن الاندثار
يجول بناظريه
في أفناء غرفته
كأنها أقبية جلاد
أصيب بشبق الانتقام
يسمع وقع اقدام
مختلطة الأصوات
ربما هناك امل آت
ربما أذنت السماء
بأنتقاله لعوالمها الاخرى
فيها تزهرامنياته العواقر
ربما ...ربما ....
يشعر بالبرد يجتاح غرفته
المقمرة بأكفان الموتى
يتزمل لحافه...كعصفور
يستظل جناح أمه
بأنتظار القادم . ))
الدراسة :
بنية العنوان النحوية تتركب من تضايف الاشارتين ( تثاؤب الاقدار) / المبتدأ
(المعرف بالاضافة ) والمضاف اليه مع تقدير الخبر المزاح بالحذف بقصد لفت انتباه
القارئ الى ان تضايفهما يضمر شيفرة دلالية ، يتطلب معرفة معناها تفكيك البنية
الدلالية لكلا الاشارتين :
- التثاؤب : اشارة سياقية نصية ، مولدَّة عن عدة اشارات معيارية المعاني :
الكسل ،الملل والنعاس ؛
الكسل : التقصير في عمل لايصحّ أن يُتثاقل عنه .
الملل : الضَجِر
النعاس : فتور حسي لمقاربة النوم
المقاربة المعنوية لدلالات ( تثاؤب ) اعلاه :عدم الرغبة في الاستجابة
للمثيرالخارجي
- الاقدار:م .القَدَرُ في سياقه اللغوي :مبلغ الشئ ،مقداره ومقياسه،وهذا
لارابطا دلاليا يربطه بما اضيف اليه (تثاؤب) مما يجعلنا نتعداه الى دلالته
المقامية السياق / التراث الثقافي لاسيما :
1- التراث الديني حيث يعني : حُكمُ الله وما قدره من الأشياء بقدرته ،
وكونه حكم اللهي فهو واجب الطاعة والتسليم به
2- الشعبي وفيه يعني : الارادة المطلقة القوة ، القادر على كل شئ ،المتحكم
بمصائر ومقدرات البشر،
المقاربة المعنوية : المخلِّص المنقذ والمحقق لاماني المقهورين .
بتجميع المقاربتين اعلاه لدلالات اشارتي العتبة العنوانية يتولد معناها
التحتاني :
خذلان المخلِّص للمستغيث به
بذا تكون العتبة العنوانية نصاً موازياً غير مكتمل الدلالة ، فهي لم تقدم
للقارئ من اجل فهم اعماق النص سوى ( نصف مفتاح ) ، فتفكيكها اسفر عن ارسالها رسالة
:
ان هناك غائباً ( القدر/ المخلص ) الذي اوجد بدوره غائبَين اخرين مسكوتاً
عنهما ( المستغيث و مستغاث منه )
وللتعرف عليهما ، وكذلك الحصول على النصف الثاني من المفتاح النصي ،فإنه
يحيلنا الى المتن ، فلامناص من تحليل سيميائية بنية المتن :
اولاً ـ البنية المكزمانية لصيرورة الحدث النصي
أ ـ البنية الزمانية : يرسم حدود الفضاء الزماني فعلان :
ـ الفعل المضارع ( تكرر / 23 مرة ) باثر ممتد الى المستقبل .
ـ الماضي ( 5 مرات ) الممتد الاثر الى الحاضر ، و كما ستبينه ، في ادناه
،المقاربات المعنوية لدلالة كل فعل منها من سياقه النصي :
1- ( اضحى خافت الضياء) / الاشارة الفعلية الناقصة ( اضحى ) لم تنفِ
استمرارية الاضاءة في الزمن الحالي ، فهي انما صرّحت بخفوتها فقط .
2 - ( ثقل الوجود عليه ) / الاشارة الوجود ذات ديمومة مكزمانية ، والاشارة
( ثقل ) تضمنت بنيتها الدلالية وصفاً لهذه الديمومة في الماضي ، لذا فهي تتبع
موصوفها في الحاضر ( اي انَّ ثُقْلَ الوجود لما يزل مستمراً حتى اليوم )
3 ـ ( ملّ تثاؤب اقداره) / الملالة من خذلان المخلص ( باستدعاء مقاربة
دلالة الاقدار ، السالفة الذكر ) المستمرة دون توقف ،( فتثاؤب ) مصدر غير مخصص
بزمن ،
4 - ( أصيب بشبق الانتقام ) / الاشارة ( شبق ) ذات دلالة غرائزية متجددة
الحاجة للاشباع ، ومن ( أُصيبَ ) بها ( الجلاد ) يغدو متجدد الرغبة في اشباعها .
5 - ( أذنت السماء ) / السماء اشارة ابدالية عن مطلق ازلي الوجود ، عابر
للزمن ،
بذا فان البنية الزمانية مركبة من :
زمن حاضر بذاته مستمر الأثر + زمن غائب بذاته حاضر بأثره = ديمومة حدثية
متصلة الزمن .
المقاربة الزمادلالية : تجاورية الغائب ( الماضي ) و الحاضر ( الان )
ب ـ الظرف المكاني : القراءة غير المتأنية لظاهر مطلع النص ( نوافذ غرفتي
مظلمة ) يولّد لدينا انطباعاً عن تلك الغرفة انها مجرد حيز مكاني وُضع ساترٌ ما
على نوافذها، فسبب لها الظلمة . لكن بمعاودتنا قراءته بتمعن نكتشف انه مشفر ، يضمر
مسكوتاً عنه ، فضمير المتكلم ( الياء ) المتصل بها ( غرفتي ) لايمكن ان يعود على
صاحبها / مالكها ، فالمقطع يوحى ان تلك النوافذ قد تعرضت لفعل فاعل ما
جعلها ( مظلمة ) ، فلو كان الفاعل هومالك الغرفة فما الداعي لإخبار الاخرين بما
يعمله في ممتلكاته ؟ كما ان للغرفة خصوصيتها فهي ( تئن من ادوائها) لا ادوائه هو ،
ادواء لازمتها دونه ، وتراكمت فيها حتى باتت تئن من ثقل وطأتها ، فمن هو مالكها
المسكوت عته ؟
ولماذا جعل النوافذ مظلمة ؟، ومن هو نزيلها صاحب تلك الياء ؟، أنزلَ فيها
بإرادته ام اُنزلَ فيها قسراً ؟ وبإرادة من ولاية غاية ما ؟ ، تفكيك الشيفرة
سيجيبنا عن هذه الاسئلة ، مما يزودنا بالنصف الثاني للمفتاح النصي .
سأقوم اولاً بقراءة تحليلية سريعة لإشارات المطلع ( نوافذ غرفتي مظلمة ) :
نوافذ = في السياق اللغوي : خروق في الجدران ينفذ منها / اليها الضوء
والهواء
وبتخصيصها بالاضافة الى ( غرفتي ) / نوافذ غرفتي : جعل منها منفذا بين
مجالين مكانيين ؛ خاص داخلي ( غرفة في بيت او مبنى مثلا ) ، واخر عام خارجي ، حيث
يكون هذا المنفذ وسيلة تواصل متبادل بين ذلكما المكانين .
المقاربات الدلالية للضوء والهواء في السياق المقامي / العلمي =
الضوء علة البصر/ الهواء علة السمع ( الهواء وسط ناقل للذبذبات الصوتية )
مظلمة : صرفياً / اسم فاعل من ( اظلم ) يفيد المفعولية ، اي ان هناك من
سبّبها بمنع الضوء من النفاذ اليها ، فلايعقل ان يتسبب الشئ بالظلمة لنفسه
مقاربة المطلع الدلالية = الغرفة معتمة بفعل فاعل ، مما يحجب الرؤية عمن هو
خارجها ، لغاية ما، فلا يرى ما في داخلها .
وهذا مما يعزز ماذكرته عن عدم ملكية ( صاحب ياء المتكلم ) للغرفة . مما
يجعل الغرفة حاضرة / غائبة ، فهي بالنسبة لمن يكون في مجاله المكاني الخارجي حاضرة
بحركية الحياة داخلها حينما تكون منافذ التواصل معها مفتوحة وتغدو غائبة حينما
تُغلق وبغية الحصول على اجابات عن اسئلة المطلع السابق ذكرها ساقوم باستدعاء
الاشارات النصية الاخرى التي يمكن وضعها مع الاشارة ( مظلمة ) في حقل دلالي واحد ،
مع مقاربة دلالة كل اشارة :
( بخرافة... الزمن يسير) / توقف الحياة فيها
( تئن من ادوائها) / تضجُّ باسباب الفناء
( لايجول فيها الا اشباح) / المعنى المسكوت عنه : لاثراً فيها لإنسان
(مصباحها / اي الغرفة، ..خافت الضياء) / محدودية مجال رؤية ما في او يجري
داخلها، لغاية ما ، فخفوت الضياء يكون بإرادة صاحب قرار
(يزدحم بمواكب الحزن )/ م . المَوْكِبُ لغةً : الجماعةُ من النَّاس يسيرون
رُكبانًا ومُشاةً في احتفال !!
لكنها مكتظة بالحزن فأية احتفلات هذه ؟
ترسم المقاربة الدلالية للمعاني اعلاه صورة غرفة غير محددة المكان ولا لمن
تعود عائديتها او لأي غرض مُعدّة ،
مما يستلزم إستدعاء باقي اشارات النصية الاخرى المتعالقة مع الحقل الدلالي
اياه :
(قيد ، يشنّقني ، أقبية جلاد ، شبق الانتقام ،أنتقاله لعوالمها الاخرى ،
المقمرة بأكفان الموتى )
بعد مقاربة دلالة كل اشارة من هذه الاشارات معنوياً ، سـأجاور بينها وبين
ماترتبط بها دلالياً من مقاربات الاشارات السابقة ( لايُرى مافي داخلها ، توقُّف
الحياة فيها، تضج باسباب الفناء ، لااثر فيها للانسان ، محدودية الرؤية الداخلية
لغاية ما
، تكتظ بالاحتفالات الحزينة) ، لتوليد معاني اكثر مقاربة لدلالات تلك
الغرفة :
- الاشارة : قيد / المقاربة : سجن + من كان خارجه لايرى مافي داخله = زنزانة
معتمة بلا نوافذ / انفرادية
- الاشارة : يشنّقني / المقاربة : مبالغة الشنق حتى الموت ، والاشارة
المركبة : انتقاله لعوالمها (السماء ) الاخرى / المقاربة : موته وبعثه + توقف
الحياة = اعدامه
- الاشارة : اقبية جلاد / المقاربة : سجون تحت الارض تابعة لطاغية ، والاشارة
المركبة : المقمرة ( المقصودة الزنزانة ) بأكفان الموتى / المقاربة :
زنزانة الظلام الاحمر تضيؤها ارواح الشهداء ( بالاحالة على جلاد، يكون
ضحاياه شهداء ) + تضج بأسباب الفناء = موضعة ( الغرفة / الزنزانة) في اماكن سرية
تعج بما يسلب حياة من يعتقل فيها ،
- شبق الانتقام / شهوة متجددة لازاحة معارضيه من الحياة ، وهذه الاشارة
المركبة تتمفصل مع :
( لا اثر فيها للانسان ) + محدودية رؤية ما يجري + ( مواكب احتفالية حزينة
) = قتله معارضيه خُفيةً، في طقوس احتفالية بالنصر ( باستحضار مقابل حزينة ) /
ازاحة دلالية عن حملات القتل الجماعي
بمقارية الدلالات التجاورية اعلاه حصلنا على اجابات عما اثارت شيفرة المطلع
من اسئلة ، تحددت دلالة الغرفة وما الغرض منها ، فهي : زنزانة انفرادية يودع فيها
معارضو حاكم جائر ،حتى تحين ساعة اعدامهم ،
بعد ان خلصنا من الاشتغال التفكيكي للعنوان والمطلع الى معرفة حقيقة الغرفة
ومالكها ، بقى ان نتعرف هوية ( المستغيث ) وماهية (المستغاث منه ) ، من خلال قراءة
الشواهد النصية على من سكت عنهما / المخلص ، قراءة تحليلية :
( قيد يشنّقني
يرهقني صعودا
فأنتفض مرتعشا ...كصوفي
ثقل الوجد عليه
يروم خرق الاسباب )
المستغيث هنا حاضر ( بيائه ) المقترنة بالفعلين / يشنّق ، يرهق وضميره
الفاعل المستتر في (انتفض) دلالة على رفضه وتمرده على غياب النجدة السماوية /
المخلص التي آمن بها ( كصوفي ) منقطعاً عن سواها الدنيوية ، رغم توالي الظلم عليه
مشنّقاً اياه باليأس ، فتستبد به الرغبة بالوصول للحقيقة ( خرق الاسباب ) ، هنا
تناص مع الاية القرآنية (( و َقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا
لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ ، أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى اله
مُوسَى ))
ولكن المخلص دائم الغياب ، لايحفل به ، بل انه هنا يثبط همته:
(فتقعده الاقدار )
فيبلغ الالم واللوعة مبلغهما فيه ويقرر الانسحاب يأساً من مراهنته على من
لايكترث لما يحل عليه من خطوب ،
فانسحبت ( ياء الحاضر ) وحلت بدله (هاء الغائب )،كضمير لحق بمفردات هذا
المقطع حتى نهاية النص :
( يتصارخ كل شيء فيه
قد ملَّ تثاؤب أقداره
أمام إحتراق سفنه
على شوطىء الحرمان )
ومع دنو اجله واقتراب وقع المنية منه ، يتشبث ببقايا امل ان حياة ثانية
ستخضر فيها عقيم امانيه ربما سينتقل اليها بعد موته ان اذنت السماء :
( ربما هناك امل آت
ربما أذنت السماء
بأنتقاله لعوالمها الاخرى
فيها تزهرامنياته العواقر )
ولوعته واحباطاته المتكررة من خذلانها اياه حياً قد يستمر لما بعد موته
فيروح يكرر:
(ربما ...ربما ....)
تاركاً فراغين بينهما وبعدهما كايقونتي صمت عن ، وحيرة من
يطويهما برد الموت يقتحم زنزانته :
( يشعر بالبرد يجتاح غرفته )
وهو يرتعش :
( كعصفور
يستظل جناح أمه )
وفي اعماق يقينه ان هناك آتياً قادماً :
( بأنتظار القادم)
ترى ما / من يكون ؟ هو حتماً ليس ذاك الذي خذله ، ومغايراً للجلاد الذي
يستحق المحق لا الانتظار ، هو اذا المقابل
لهما سترتسم ملامحه بعد تركيب ( المفتاح النصي ) من تجميع نصفيه الاول (
مقاربة العنوان الدلالية ) ، والثاني
( مقاربة مطلع النص ) وكما يلي :
خذلان المخلص للمستغيث به + زنزانة المحكوم بالاعدام لمعارضته حاكما طاغياً
بدلالة وجود المستغيث في الغرفة الزنزانة يكون المستغيث هو المحكوم
بالاعدام ، نقوم بتشذيب ركنَي المعادلة الدلالية السابقة بازاحة المشترك بينهما :
خذلان المخلص + الحاكم الطاغية
بإحالة ( المخلص ) داخلياً على رسالة عتبة العنوان : المخلص مكافئاً للغياب
وبتكثيف دلالة ( الطاغية ) الذي كان حاضراً بآثاره وقراره في عموم المتن :
الطاغية مكافئاً للحضور
بتعويض الدلالتين المكافئتين فان المفتاح النصي سيتركب من :
غياب + حضور = تماهي ( الغائب / الحاضر )
بذا يمكن رسم ملامح ( القادم ) المقابل لهما :
المخلص الغائب = الوهم الغيبي / مقابله : الوعي
الطاغية = الظلم / مقابله : الحرية
اذاً القادم = الوعي الحر.
- باسم الفضلي العراقي -