حامد حبيب
مأساةُ النَّديم [{ 2}]
بعد هزيمة التل الكبير ، مضى (النديم) إلى صديق مخلص فى بولاق ،ومكث عنده
مستتراً هو وخادمه نحو عشرة أيام ، استحضر خلالها
ثوباً من الصوف الأحمر و " زعبوط
" وعُكٌاز ، وكانت لحيته قد طالت
فصار لايعرفه أحد،فخرج
وخادمه ليلاً للساحل وركبا سفينة
متجهة إلى بنها ، وتظاهر
بأنه من شيوخ الطرق
الصوفية ، فلما وصلا إلى
بنها ، نزل رجال التفتيش للبحث عنه،فلم يعرفوه،وكانت
الحكومة قد رصدت ألف جنيه لمن يدلّ عليه ،
فاتجه إلى بلدة " ميت الغُرَقا " فأقام
بها دهراً عند
رجُلٍ من ذوى النفوذ ، وقد
كان خادمه أمّياً ، وطلب الرجوع إلى أهله
، فخشى النديم أن
يفتضح به أمره ، فجاء بالجريدة الرسمية ونظر فيها وأظهر
الجزع والحزن وضرب كفّاً بِكَفّ ،فسأله
الخادم عن السبب ، فقال له إن الحكومة
جعلت لمن يرشد عنى ألف جنيه ، ولمن أتاها
برأسك خمسة آلاف جنيه،فخاف الخادم وبالغ هو الآخر فى التخفِّى، وبالتالى اتقى
النديم غدره.
وبعد فترة
اختفى ببلدة اسمها
"العتوة" بمديرية الغربية ، ومامضى على
إقامته هناك أكثر من سنة
حتى مات الرجل،فجاءت زوجة
الرجل بأكبر أبنائها الذى لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره ،
فقالت له
هذا عبد الله النديم الذى
جعلت الحكومة لمن هداها إليه ألف جنيه ،
أفتريد أن تؤويه وتُكرم مثواه كما فعل أبوك أم ترغب فى حطام الدنيا ، فأكون بريئة
منك إلى يوم الدين ،
فقال: حاشا لله ، فلن يصل إليه أحد بسوء مادمتُ حيّاً ،فمكث النديم نحو أربع سنين
إلى أن وشى به بعض أقرباء
الرجل، فهرب ليلاً،وكان
فى كل مرة يغيّر زيّه
ويبخّر لحيته بالكبريت ويغيّر اسمه ، حتى لقد
انتحل تسعةَ أسماء ، منها: الشيخ محمد الفيومى ، والشيخ
يوسف مدنى ، وسى الحاج على المغربى.
ولما كان
قاصداً "العتوة" قادماً
من "ميت الغُرقا" صادفه
مأمور مركز وكان چركسياً، ومعه قوة صغيرة
من الجند ، فأمر القوة أن
تسبقه قليلاً ، ثم لوى عنان فرسه متجها
إليه قائلاً : للضرورة للتنكّر،فقد عرفتك
وأنت النديم، فاعترف،فقال
له المأمور : لابأس عليك
..اذهب فى
أمان الله وحفظه ولاتخف ،واعلم أنى وإن كنتُ چركسىّ الأصل
، فإنى عربىّ الكرم ، ولهذا
وهبتُك حياتك وتنازلت عما خصّصوه لمن دلَّ عليك
مع احتياجى للقليل منه ، كما تنازلت عن كل ماعسى
أن أتابع
بواسطة القبض عليك من الرُّتَب والمناصب
لِتعلَم أن فى الوجود
بقيّة للكرام ، ولكن إياك وهذا
الطريق المسلوك ، فربما صادفك
من يقبض عليك
فيه،ومدّ يدَه إلى جيبه
وأخرج ثلاثة جنيهات ودفعها
إليه وقال له : هذا كل
ماأملُك الساعة فخُذه واستعن
به على أمرك.
واستقر به الأمر فى بلدة
"الجميزة" بسعاية من أحد
الطامعين ، غير أن ميعاد
المكافأة كان قد
انتهى،
فذهبت مطامع النمّام
أدراج الرياح،ولم ينل شيئاً.
وكان القبض عليه فى شهر
نوفمبر سنة١٨٩١م أواخر عهد الخديوي توفيق ، وحُبس أياماً بمديرية الغربية
جيشاً سياسياً لاجنائياً
، وأمر الخديوي بإبعاده خارج مصر،على حسب مشيئته ،فاختار "يافا"فى
فلسطين
لأنها مدخل
بيت المقدس ،
وودّعه محافظ
الإسكندرية (عثمان عرفى
باشا)، ولما أرست السفينة
بساحل يافا ، نزل إليه بعد أن دفع له ربّانُها خمسين جنيهاً ، جعلها
له الخديوى ليستعين بها فى غربته،
وكان فى استقباله على
الشاطئ عدد كبير من العلماء والأدباء والأعيان،الذين قابلوه بالبشر والترحاب.
""""""""""""""""""
__(نواصل
مااستجدّ فى حكاية النديم..إن شاءالله)
_________________
حامد حبيب _مصر