الزعيم الأوحد بين الحمير !!
لوحات قصصية عن الحمير: نبيل عودة
1 - حمار ابيض وذكي
كثيرا ما ادعى الحمار الأبيض بقدرته على التمييز بين الخواص ذات القيمة والخواص
الطارئة. طرح على عموم حمير الخان وحمير البلد والحمير من الزوار والبلدات الشقيقة،
تفسيرا قريبا لما طرحه الفيلسوف الاغريقي أرسطو عن نفس الموضوع. والحق يقال ان الحمار
الأبيض لم يسمع بأرسطو، وأرسطو لم يفكر ان حمارا ما قد يصير فيلسوفا في زمن قادم، يكون
من الحكمة والذكاء على قدر يجعله بموازاة ارسطو في خان الحمير على الأقل.
ذكاء الحمار الأبيض أصبح حديث الحمير في البلدات المختلفة، بل وتناقل أخبار
ذكائه أصحاب الحمير، كما يتناقل اليوم الناس أحدث الأخبار. صحيح ان بعض الحمير عبروا
عن استهتارهم بهذا اللغو البشري، ولو عرفوا النطق، كما يعرفون النهيق لأوصلوا الرسالة
لأصحابهم ولينقلب فرحهم غضبا. المسالة لم تعد تفرق مع حميرنا التي تعاني من اضطهاد
وتقييد في حريتها، وتشغيل بالسخرة مقابل بعض العلف الذي لا يتغير ولا يضاف اليه ما
يفتح الشهية.
ليس بالصدفة ان يعرف الحمار باسم "ابو صابر"، غير ان المقلق كما يتبادل
الحمير الأسرار فيما بينهم، بلغة مشفرة يعجز عن فك طلاسمها أشطر الناس .. ان يكون وراء
ذكاء الحمار الأبيض، حقيقة قد تغير اسلوب التعامل معه، فيحظى دونهم بما يحلم به سائر
الحمير. معاملة محترمة من اسياد العالم البشر، فقد بلغ السيل الزبى من القهر والعنف
غير الضروري بالتعامل معهم.
وحسب المعلومات المنقولة من خان الحمير، حيث بات الحمار الأبيض يعامل باحترام
حتى من مسؤول الخان وعمال النظافة، بحيث لا يحملوه أوزانا مرهقة كما هي حال سائر الحمير.
ربما بسبب لونه الأبيض؟ ربما بسبب فهمهم انه حمار على درجة من الذكاء النادرة في عنصر
الحمير؟ والواقع ان المسؤول عن الخان، قد يكون فك طلاسم هذه اللغة التي يتبادلها نزلائه
بعد يوم عمل شاق، اذ ان تواجده معهم يكاد يكون معظم ساعات الليل، مستمعا لثرثرتهم من
غرفته المجاورة لمدخل الخان. اذ ليس من المعقول في عالمهم ان يعامل الحمار الا بالعنف
والضرب. فلماذا هذه التخصيص والتكريم والاعتبار للحمار الأبيض، ان لم يكن بسبب اكتشاف
مسؤول الخان تميز الحمار الأبيض وعبقريته وقدراته العقلية ولغته الخاصة التي تشبه لغة
الثقافة بوقعها على الأذن، حيث ان نهيقه بالغ الأناقة كنهيق بعض المثقفين .. رغم ان
المعنى غائب عن فهم حتى زملائه الحمير، فكيف يفهمها البشر او حتى مسؤول الخان؟ معضلة
لم يتوصل اليها مجلس الحمير الموقر الى تفسير.
كان من عادة الحمار الأبيض ان يقف في الزاوية البعيدة داخل الخان، مراقبا انتظام
الحمير في أماكنهم، شاعرا انه مميز عن سائر الشعب، ويجيل نظراته بين حمير خانه، قبل
أن يخطو خطوتين للأمام ويبدأ حديثه المنمق شارحا فحوى فكرته الجديدة، جاهدا لتفسيرها
بلغة بسيطة وسهلة، قائلا: ان الخواص القيمة هي التي لا يمكن ان يوجد الشيء بما هو عليه
بدونها. ويسال:
- مفهوم ..؟
ويرد الشعب مهموما من الجهل والارهاق بعد يوم عمل من شروق الشمس حتى مغربها:
- مفهوم !!
والشعب لم يفهم بالتأكيد. ولكنه موقف احتياطي حتى لا يتورطوا بالتحقيقات الجنائية
والسياسية لدى مجلس التأديب داخل الخان، ويتهموا بالعمالة لأعداء الوطن. وتنهال عليهم
العصي اثناء راحتهم أيضا. ويواصل:
- اما الخواص الطارئة فهي التي تقرر كيف يكون الشيء وليس ما هو الشيء.
وينظر بحدة بعيني حمير خانه منذرا من اللغط المتزايد دون ان ينبس ببنت شفة،
ويمشي الخيلاء دائرا حول نفسه. عارضا لونه الأبيض المميز. وعندما يسود الصمت الكامل
يقف مسلطا نظراته القاسية على جمهور الحمير المحتشد، ويسأل:
- الشرح واضح ؟
- واضح واضح ...
ينهق الحمير بببغاوية مستصعبين استيعاب كلام ملكهم الأبيض. ولكنهم لا ينسون
للحظة واحدة ان الطاعة واجبة لمن يولى عليهم، وهذا الأمر اكتسبوه من البشر. لكن لا
أحد يعرف هل تلقى الحمار الأبيض الولاية بمرسوم من صاحب الخان، ام ان موهبته قادته
تلقائيا لهذه المرتبة السامية، حتى بدون تصويت ديموقراطي؟
حتى مسؤول الخان الذي وقف دون أن يراه الحمار الأبيض متأملا نهيقه الأنيق، مثل
حديث المثقفين الذي سمعه مرة في الراديو ... وفشل في فهم اسرار كلامهم. والآن لا تسعفه
خبرته بالمزيد من الذكاء. وتأمل ذهول سائر الحمير امام شموخه، أصابته الحيرة في تصرفات
حماره الأبيض المحبوب من عمال النظافة، ومن عموم أهل البلد. لما يجلبه عليهم من حظ
جيد عندما تكون مهمته في أحيائهم، وليس سرا ان نساء الحارة وأطفالها المتواجدين خلال
ساعات النهار في بيوتهم، يخرجون لاستقبال الحمار الأبيض وملامسة عنقه واطعامه الخبز
الناشف او بعض القمح وعرض الشرب عليه من مياه نظيفة، ومد عامل النظافة ببعض أرغفة الخبز
او بعض القروش حتى يتعوق قليلا ليفرح الأولاد بهذا اللون النادر للحمير. صحيح تماما
ان مسؤول الخان صار يعرف من علاقته طويلة السنين مع حمير الخان، نهيق الغضب من نهيق
الغرام ونهيق الألم من نهيق الفرح ونهيق المعاشرة من نهيق الرفض. ونهيق المرض من نهيق
الصحة. ولو كان يعرف الكتابة والقراءة لوضع قاموسا بلغة الحمير الصوتية، بحيث يصير
التفاهم كاملا وشاملا بين البشر وأبو صابر.
ولكن مثل هذا الحمار لم يشهد في حياته. والحق يقال انه يدير الخان بانضباط شديد
ولا يقصر بالواجبات التي يكلف بها، والا لصار لحمه أزرق من العصي ولأصبحت عظامه مورمة
من الحمولات المرهقة والركض من حي الى حي لجمع الفضلات التي لا تنتهي من الأحياء.
صحيح انه في الشهر الأخير قصر في واجباته بسبب ضغط الموضوع الجديد على دماغه.
ولكن بغل جديد انضم لنزلاء الخان أنقذ الوضع بسد بعض العجز في عمل الحمار الأبيض، حتى
صار العمال أنفسهم يستثنوه من العمل المرهق، ولا يجروه الا لأحياء الفيلات الفاخرة،
حيث تبقى الشوارع نظيفة، ولكن لا أحد يخرج لملاقاته والتربيت على عنقه واطعامه واسقائه
الماء. والحق انه كان يفضل الأحياء الفقيرة وساكنيها رغم الارهاق الزائد في العمل.