البروف حمّاد
قصة قصيرة
بقلم/ مالك معاذ أبو أديب
"البروف
حمّاد" ... هكذا اشتُهِر بين زملائه الطلاب، بعد بزوغ نجمه وتفوقه
الملحوظ في مادتي الفلسفة والمنطق، اللتين
تشربهما حفظاً وفهماً ودراسة قبل ان تطأ قدماه ثرى الجامعة، فكان عندما يتحدث عن
علماء الفلسفة في العصور السابقة والحديثة،
وعن ما انتجوه من نظريات خالدة، تحسبه وبلا ادنى شك واحداً منهم.
كان الاساتذة يحسبون له
الف حساب اثناء محاضراتهم، ويتفادون الخوض معه في دهاليز الفلسفة وشؤونها التي هو
ادرى بشعابها منهم. والمتواضعون منهم
كانوا لا يجدون حرجاً في الاستعانة به في بعض المسائل الفلسفية العصية.
اما الطلاب والطالبات
فكانوا يتنافسون في التقرب منه ويتباهون بذلك، فتجدهم متحلقين حوله وملتفين
كالمعصم، لا يحيدون عنه قيد أنملة، وذلك من باب الاعجاب حيناً، أو من باب السؤال
عن ما اُشكل عليهم من درس في اغلب الاحيان.
كان البروف حماد نجماً لا
يُجارى في اركان النقاش، وخطيباً مفوهاً لا يُشق له غبار في المنتديات الثقافية، حيث
يتوافد عليه الطلاب من مختلف كليات الجامعة، زرافاتٍ ووحداناً، مستمتعين بعباراته
الأنيقة واسلوبه الذي يخلب الالباب ويجذب العقول.
كان نحيفاً، متوسط الطول،
أكثر ما يميزه، جبهةٌ عريضةٌ، ووجهٌ أقرب الى الطول، تبرز منه عينان جاحظتان تنمان
عن ذكاءٍ حادٍ وفطنةٍ ودهاء. اما شعر رأسه، فكان كثاً، تتدلى منه عُدة ضفائر لتغطي
جزءً كبيراً من أُذنيه، بحيث يَصعُب رؤيتهما بسهولةٍ ويُسر.
أمّا لباسه الذي عُرف به
واشتهر، فكان يتكون من بنطلون جينز ازرق، بدأ يفقد كثيراً من لونه لقِدَمِه وتآكله
عند الركبتين. ولم يكن قميصه الرمادي، ذي الاكمام القصيرة باحسنِ حالٍ من بنطاله
الباهت؛ إذ يقول المقربون منه انه لم يغيره الا في مناسبتين اثنتين فقط بآخر اكبر
حجماً ذا اكمامٍ طويلة وياقةٍ احترق جنبها الايسر بالمكواة، فتركت اثراً واضحاً
للعيان.
كان في معظم الاحيان
ينتعل حذاءً جلدياً، يعلوه الغبار، وقد تآكل كعباه من الخلف، مما جعل مقدمتيه
المرتفعتين اشبه بطائرتين في حالة اقلاع ويبدو أن ذلك الحذاء لم يزُر صبية الورنيش
منذ ان اوقعته الاقدار تحت قدمي البروف.
اما حقيبة كتبه، الثقيلة،
المتكورة على كتفه المائل الى الامام، فيبدو انها كانت تستهلك كل طاقة جسمه النحيل
المتهالك.
كان مظهره بإختصار يوحي
لمن يراه اول مرة بعابر سبيل عاد للتو من رحلة طويلة مرهقة.
كان مازن من ابرز
المعجبين بالبروف حماد؛ إذ كان يتبعه كظله في حله وترحاله بين مكتبة الجامعة
وقاعات المحاضرات، واركان النقاش، حتى لُقب بسكرتير البروف حماد، فكانت سيرته لا
تبرح لسانه، لدرجة ان اهل بيته تمنوا رؤية هذه الشخصية العظيمة، الى ان قرر دعوة صديقه البروف لتناول الغداء معه.
شهد منزل مازن الكائن في
احد احياء الخرطوم الراقية، حركةً ونشاطاً غير عاديين، في تلك الظهيرة من يوم
الجمعة، حيث ضجّ المطبخ بأصوات الآنية ورائحة الثوم التي تجاوزت حدود البيت لتستقر
في انوف الجيران والمارة في الطريق العام.
كانت مُزَن شقيقة ماجد
الصغرى من اشد المتشوقين والمتلهفين لرؤية الضيف المرتقب، الذي طالما سمعت عنه من
مازن. فأشرفت بنفسها على اعداد تلك الوليمة في ذلك اليوم المشهود.
اما مازن، فقد كان
منشغلاً بتهيئة مكان المائدة عندما سُمِع طرقٌ خفيف على باب الشارع، فأسرعت مُزن
لفتحه، تسبقها جيوش الشوق والفضول لملاقاة البروف حماد، الذي اختزنت له في مخيلتها
صورة شاب في غاية الاناقة والوسامة، بيد أنها فوجئت بشخص باهت الطلعة والمظهر ، لم
يراودها ادنى شكٍ في انه احد الشحادين الذين اعتادوا التسول في مثل هذا الوقت من
كل جمعة، وكان من سخريات القدر ان يكون ذاك الشخص هو البروف حماد بشحمه ولحمه وقبل
أن يُقريها السلام باغتته قائلة: انتظر هنا (اجيب) لك الاكل، واغلقت الباب من
ورائها بدون اكتراث.
عقدت الدهشة لسان البروف،
ولم ينبت ببنت شفا، ولم ينتظر صدقة مزن القادمة ولا تبرير موقفه، بل استدار الى
الخلف متحسساً كرامته المهانة، وشعر لأول مرة بثقل الحقيبة على كتفه الذي ازداد
انحناءً في تلك اللحظة، وبخطى مرتبكة غادر المكان على عجل، كأنه جندي هارب من حربٍ
ضروس !!