باسم عبد الكريم العراقي
دراسة تحليلية موجزة عن نص "الكتابة رئة ثالثة" للشاعرة السورية
"نوار الشاطر"
النص :
(( أكتب لأمشط شعث مشاعري ،لأصفف أجراس
الخيبة التي تدق في أرض أحلامي
،لأرمم جدار ابتسامتي الذي صدعه الحزن ،لأصنع
فرحاً ملوناً على مقاس شمسي .
أكتب لأجدني فقد ضاعت ملامحي عندما ابتلعتها أمواج
العتمة.
أكتب لأحوك سماء ثامنة وأطرزها بنجوم وضاءة
بالأقحوان.
أكتب لأقرأني فما عدت أعرفني بعد أن تبخرت ورود
آمالي عندما أشعل الواقع حرائقه
في أرجاء أمنياتي .
أكتب لأفرغ حقائب قلبي المكتظة بضجيج العواطف
،لألمع أجنحتي الناصعة بالنقاء
،لأنير قناديل روحي بنسيم قطرات الماء.
أكتب لأزيل غبار الشوق الذي تراكم في مساماتي
،لأمسح رائحة الأنين عن مرآة
ظنوني ،لأكنس الحنين من أزقة الذاكرة ،لأغسل أوجاع
الغربة ،لأنشر الأمل على حبل
عمري ،لأكوي الآهات الممتدة من فؤادي إلى دمشق
.
أكتب لأطوي المسافات ،لأجفف سيل الدمعات ،لأطهو
السعادة في موقد قلبي ،لأعجن
الحروف بماء الحب وأخبزها في فرن المعاني ،
وأتذوق حلاوة القصيدة على طبقي اليومي ،
وألتهمها كلمادقّ ناقوس الوحدة أنغامه المخيفة في
ضفاف وقتي .
فأنا لست إلا بقايا حالمة طاعنة بالخيال ، تصادق
الكلمات التي تعطر محبرة أثيرها
وتربي القصيدة في حجر ضوئها حباً على حب
.))
الدراسة :
سيميائية بنية لغة النص الدلالية تتميز بالمجمل
بهذه السمات:
1ـ اشارات متعددة الدلالات، مما يفسح
مجال التأويل لتعدد القراءات / طبقات القراءة ، وبالتالي يؤدي الى تعدد المعني
المتكونة في ذهن القارئ كل حسب درجة وعية وثقافته / طبقات المعنى ، وسأعزز هذا
الرأي بتفكيكي لاشارات مطلع النص ( لآمشط شعث مشاعري) فقط لضيق المجال من جانب ،
ولان تفكيك باقي اشاراته يحقق ذات الغاية :
أمشّط:اشارة فعلية مادية تحيل الى آلتها(فعل
التمشيط لايتم الا بآلة/ المشط )
وهي هنا ولّدت دالاً لغوياً محدد المدلول معناة
المعجمي: تسريح ، ترتيب الشَّعر/ المقاربة الدلالية : التجميل ،الا ان سياق النص
اخرجها الى دلالات معنوية اخرى كما سيتوضح ،لاحقاً ، بعد تجميع باقي دلالات تفكيك
الاشارتين التاليتين لها
شعث : اشارة وصفية سلبية لملموس مادي كلي او جزئي،
كجسم الانسان بكامله او شَعره فقط ، دلالتها المعنوية تشير الى صفة : التفرُّق ،
التلبُّد ، الاتساخ / المقاربة الدلالية :التبعثر والتشوّه
الا ان اضافتها الى مابعدها ( مشاعري ) اخرجها الى
قصدٍ اخر ، سيتضح لاحقا كما في الاشارة السابقة
مشاعري: اشارة حسية معروفة المعنى ؛ العواطف
والاحاسيس / غير مادية
وبجمعها مع المقاربتين الدلاليتن الناتجة من
التفكيك اعلاه ، واستحضار
الاشارة الفعلية الاولى في العبارة (اكتب )، نحصل
على هذا التركيب الدلالي المكافئ:
اكتب لتجميل تشوّه احاسيسي وعواطفي
ومن هذه الاشارات ( جدار ابتسامتي ، امواج العتمة
، رائحة الانين ،لأطهو السعادة في موقد قلبي )
2 ـ حركية الصور الشعرية ( اي
تعتمد ديناميكية الحدث المتخيل ) وتكثيفها
الرمزي ( اختزالية الايحاءات والدلالات المعنوية ) مما يضفي على النص سمة
الانزياحية الدلالية والاستمرارية الحدثية ، وهذه التقنية التعبيرية تشد القارئ
لعوالم النص وتحمله على تتبع سيرورته بلهفة ، ومن هذه الصور ، اضافة للصور الواردة
في/ 1 اعلاه :
( فقد ضاعت ملامحي عندما ابتلعتها أمواج
العتمة) / ( لأطهو السعادة في موقد قلبي ) / ( دقّ ناقوس الوحدة أنغامه المخيفة في
ضفاف وقتي)
مع وجود بعض الغلو في بعضها ( انا اظن ان الشاعرة
وقعت في هذا المأخذ لشدة انفعالها فالنص مفعم بالحسية المتوقدة مما يحمل الكاتب
على الوقوع في مثل هذه المآخذ جراء طغيان الجانب العاطفي على الفني ) كما في هذه
الصورة ( تبخرت ورود آمالي عندما أشعل الواقع حرائقه ) فهي وان كانت حركية الا
انها غير شعرية ، حسب رايي الشخصي ، فالانتقال من الحالة المادية ( ورود ) الى
الغازية ( مايوحي به الفعل تبخرت ) اسقط الحالة الوسطى بينهما ( الحالة السائلة )
لانها مفقودة اصلا ، فالشاعرة تكلفت هنا ولم تأتي بايحاء او اشارة ذات دلالة
معنوية منسجمة سياقيا مع باقي الصور
3 ـ التنوع في الايقاع البصري للمقاطع
النصية : طول المقطع اوقصره ، ومابينهما ومثال ذلك :
أكتب لأمشط شعث مشاعري/ طويلة
أصفف أجراس الخيبة التي تدق في أرض أحلامي/ اكثر
من طويلة
أكتب لأطوي المسافات / متوسطة الطول
لأجفف سيل الدمعات / متوسطة
لأطهو السعادة في موقد قلبي / تميل للطول
أعجن الحروف بماء الحب وأخبزها في فرن المعاني /
طويلة،
وان عدم وجود المقطع القصير ( الايقاع البصري
الخاطف او السريع ) يدل على عدم الانبساط النفسي للكاتبة هنا ( حيث ان الايقاع
السريع يدل على الانشراح ) ، مما يتناسب مع ثقل الهم ، وامتداد الحزن او الشكوى
4 ـ
الترابط الدلالي للمعاني الفرعية اعطي الاتساقية للبنية الفنية للغة النص
، و بتصاعدية حدثية تفضي الى تعرُّف معناه النهائي ( مضمونية فكرته) ، وهذا الترابط لظاهر النص (
سطحه ) اظهر الشكل متلازم العناصر ، متماسك الاركان ، مما مثل وسيلة تواصلية
سليمة لمرسلاته الخطابية ، بلا اضطراب او
غموض بما يخلق حالة القطيعة بين المرسِل / الشاعرة ، والمرسَل اليه / المتلقي ،
رغم ( طبقية ) معانيه ، كما اسلفت ، ومن ابرز وسائل الربط للعناصر الشكلية هي
:
تكرار لام التعليل ( لأصفف ،لأرمم ،لأصنع ، لأجدني
.... )
تكرار الواو العاطفة
والتكرار هنا يتنلائم حركياً مع تكرار فعل الرئة (
من مركبات العتبة النصية ) اثناء التنفس
اما الترابط المعنوي (الدلالة التحتانية) فتتجسد
بتناسقية الدلالات وتكاملية اشاراتها معانوياً ، ضمن المقطع السياقي الواحد ، فلو
تأملنا قول الشاعرة :
( أكتب لأطوي المسافات ،لأجفف سيل
الدمعات ،لأطهو السعادة في موقد قلبي ،لأعجن الحروف بماء الحب وأخبزها في فرن
المعاني ، وأتذوق حلاوة القصيدة على طبقي اليومي ،)
نجد ان مقاربة دلالة ( طي المسافات ) هي الغاء او
ازاحة اسباب البعد/ الغربة، وهذه المقاربة نجدها متناسقة مع مقاربة الدلالة التي
تليها ( لأجفف سيل الدمعات ) وهي ازاحة آثار الحزن / الدمعات ، وتتكامل الدلالات توالياً
باشارات ( السعادة ، اعجن ، الحب ، اخبز ، حلاوتها ، طبق يومي ) فمقارباتها تشير
الى الاستقرار النفسي والحياتي / الامان والطمأنينة
وهذا مانجده في باقي دلالات المعنى المخبوء /
التحتاني للنص
5 ـ البنية النحوية : اعتماد الشاعرة
على حاضرية الزمن الفعلي ( المضارع ) دلالة على حيوية الحدث ، وديمومة مضمونه ،
واستمرارية تفاعله في ذات الشاعرة ، وبالعودة لعتبة النص (الكتابة رئة ثالثة) نلمس
مدى مناسبة هذا الزمن لفعل الكتابة ، باعتباره وسيلة تنفيسية عن مشاعر غائرة في
الوجدان ( مكتومة او مقموعة ) وهو فعل آني الحصول ( لان ماوقع من فعل التنفس في الماضي توقف
وانتهى ) و منفتح على المستقبل .
ــ باسم الفضلي
العراقي ــ