مصطفى الحاج حسين
*** التّحدّي ..
قصة : مصطفى الحاج حسين .
كان عائداً من عمله ، منهكاً لا يقوى على
جرّ نفسه ، فتحت له "مريم " الباب ، وهتفت بفرح واضح :
- "
رضوان " ..أنا أعرف كتابة اسمي ، ظنّها تهلوس فهي أمّيّة مثله ، فسألها
ساخراً :
- وكيف
تعلّمتِ الكتابة ياعبقريّة ؟.
- من "
سميرة " ، هي التي علّمتني .
خفق قلبه ، أمعقول هذا ؟! .. هل يمكن له أن
يتعلّم ، وهو ابن الثانية عشرة ، وبرقت في ذهنه فكرة ، سرعان ما كبرت ، قبل أن
يخطو عتبة الغرفة :
- (( سأعرض
على " سامح " أن يعلّمني ، سأرجوه إن رفض . سأشتري له " البوظة
")) .
وفجأة .. شعر برغبة عارمة ، في رؤية
" سامح " ، قرر أن يذهب إليه حالاً ، وقبل أن يغسل يديه ووجهه من الغبار
والعرق ، ودون أن يغيّر
ثيابه المهترئة والمتّسخة ، قفز مسرعا ًبينما كانت أمّه تعدّ له طعام الغداء.
دخل بيت عمّه " قدّور "، وجد
" سامحاً" محنيّاً على كتابة وظائفه ، فقال بسرعة :
- "
سامح " أريدك أن تعلّمني كتابة اسمي .
رفع " سامح "
رأسه نحوه ، وارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتيه :
- تعلّم
الكتابة صعب عليك .
- ولماذا صعب
؟!. هكذا سأل بحنق .
- صعب .. ثمّ
ماذا ستستفيد إن تعلّمت كتابة اسمك ؟!.
- سأستفيد ،
سأتعلّم كتابة اسمك واسم أبي وأمي و مريم وسميرة أيضاً .
ضحك " سامح " ، فاغتاظ "
رضوان " وقد أدرك شعور ابن عمّه بالتفوق عليه ، فأحسّ نحوه بكرهٍ شديد ، غير
أنّه وفي هذه اللحظة لا يريد إغضابه ، وهو على أيّ حال قادر على ضربه ، لذلك كبح
حنقه :
- ماذا قلت
؟؟.. هل أنت موافق ؟.
هزّ " سامح " رأسه علامة
الموافقة ، وبقيّ صامتاً يتطلّع إلى الأرض ، كأنّه يفكّر بشيء ما .
- إذاً هيّا
بنا .. تعال علّمني .
- لا .. ليس
الآن ، سأعلّمك ولكن فيما بعد .
- ولماذا
فيما بعد ؟!.. أنا جاهز الآن .
سأل بلهفة من فقد صبره .
- اسمع يا
" رضوان " ، هناك فتى في صفّي يزعجني كلّ يوم ، وأنا لا أقدر عليه ،
أريدك أ تنتظره عند باب المدرسة وتضربه .. هذا هو شرطي ، لكي أعلّمك ، فما رأيك ؟
.
صرخ " رضوان " دون تفكير ، فلقد
شعر بالنشوة والاعتزاز بنفسه ، " فسامح " يعترف بقوته ، بشكل غير مباشر
:
- طبعاً أنا
موافق .. حتّى من غير أن تعلّمني ، فأنت ابن عمي ، أنا على استعداد لقتله نهائياً
من أجلك .
عاد " رضوان "
إلى بيته ، وهو يفكر :
- (( سوف
أجعله عبرة لكلّ الطلاب الذين لا أحبّهم ، فأنا قويّ ، الجميع يشهد لي بذلك ، وكلّ
من يدرس يحسدني على قوّتي .)) .
في اليوم التالي ، وقف " رضوان
" قرب المدرسة ،ينتظر وهو متفائل بقدرته على سحق خصمه ، ولذلك فهو لم يحمل
معه سلاحاً ، كان يهمس في سرّه :
- (( سأعاركه
بيديّ ، وإذا لزم الأمر سأشقّ رأس بالحجارة )) .
وكان يتخيّل كيف أنّ " سامحاً
" سيحسدّه على قوته ، ويعرف أنّه بدونه لا يساوي شيئاً.
بدأ الطلاب يخرجون ، فأخذ يحملق فيهم
واحداً واحداً .. ولاح له " سامح " يرتدي صدريته ويحمل حقيبته، ولمّا
اقترب منه كان وجهه مصفراً ، فدنا منه وهمس:
-"
رضوان ".. أنا خائف .
فصاح " رضوان "
بصوت مرتعش :
- ولماذا
تخاف ؟؟!! .. أنت دلّني عليه فقط .
فقال " سامح "
بصوته المضطرب :
- سيعرف أنّك
ابن عمّي ، وسيقدّم شكوى بحقّي للأستاذ .
- لا عليك ..
لن أجعله يعرف من أنا .. سأتبعه إلى أن يبتعد، ثمّ أنقضُ عليه وأرميه مثل الكلب
فوق التراب .
ابتعد " سامح "
كالمذعور وهو يهمس:
- لقد جاء ..
ها هو ، ذاك الذي يحمل حقيبة سوداء كبيرة .
نظر " رضوان " حوله، فشاهد
عدداً كبيراً من التّلاميذ متشابهي الثياب ، غير أنه عرف خصمه من بينهم ، صاحب
المحفظة السوداء ، وعندما اقترب منه ، وجده أطول قامة ، وتظهر في وجهه علامات
القوّة والشقاوة، تبعه " رضوان" بينما كان"سامح " يبتعد ، وهو
ينظر خلفه ، بين اللحظة والأخرى .
دخل الخصم في زقاق جانبي ، وأخذ يسرع خطاه
،عندما عاجله " رضوان " بصرخة قويّة:
- توقّف
ياكلب .. توقّف عندك .
التفت ذو المحفظة السّوداء مستغرباً ، فرأى
" رضوان " مسرعاً نحوه وهو يصرخ :
- نعم .. أنت
.. توقف ، سوف ألعن أباك .
وفور وصوله هجم عليه ، مسدداً ضربة قوية
على وجهه ، فحمل هذا محفظته ، وهوى بها على وجه " رضوان " فتدفق الدّم
من أنفه غزيراً ، فجنّ جنونه .. وزعق :
- سأفعل بأمك
يا ابن ال ....
والتقط حجراً كبيراً وقفذف بها خصمه،
الذي تفاداها ببراعة ، واشتبكا بقوة ، وكلّ يحاول أن ينتف شعر الآخر ، بينما دم
" رضوان " يسيل على وجهه ، والتفّ الصبية يتفرّجون على المشهد المثير ،
ومن بعدٍ لمح " رضوان " ابن عمّه " سامحاً " واقفاً يراقب
المعركة ، فشعر نحوه بالحقد ، كيف يقف هكذا دون أن يساعده ، فهذا الخصم قويّ لا
يستهان به ، وندم لأنّه لم يأت معه بسلاح، وأصابه الخجل عندما استطاع خصمه أن يلوي
له ذراعه ، لا بدّ أنّ " سامحاً " يسخر منه الآن ، يده تكاد تكسر تحت
ثقل الضغط ، ففكر أن يستغيث " بسامح " ، ولكن قوته المزعومة ستهتز حقاً في
نظر " سامح " .. تألم كثيراً ولكنّه استطاع في اللحظة الأخيرة أن يصرخ :
- اترك يدي
ياابن السافلة .. لقد كسرتها .
ولم يكد يكمل عبارته حتّى جاءته ركلة على
مؤخرته ، تحرّرت يده وركض يبحث عن حجر ، لكنّه وجد صاحب المحفظة ينحني على الأرض ،
فانطلق يعدو وخلفه خصمه ، وهو يهتف :
- توقّف يا
جبان .. سألعن أباك .
حول سور المدرسة قعد " رضوان "
حاملاً في طيات نفسه ذلّه وانكساره ، لقد هزم .. ياللفضيحة ، وكان يتساءل :
- (( كيف
سأقابل " سامحاً " ؟. وماذا سيقول هذا الوغد " لسميرة " ،
التي أتظاهر أمامها دائماً بالقوة ؟؟ .. اللعنة عليك يا " سامح " ، هل
نصبت لي فخاً ؟!؟!.. هل كنت تعرف مدى قوة ذلك السّافل ؟؟.. ودفعتني لأتعارك معه ؟
.. أكنتَ تمتحن قوتي ؟!.. أم كنت مخدوعاً بقوتي مثلما كنتُ أنا مخدوع .. ولكنّي
سأريك قبل أن أري خصمي ، بأنّي لست جباناً .. فإن هربت اليوم ، فذلك لأنّي متعب من
العمل ، في الغد سأحتال على أبي وأبقى في البيت ، وآتي إلى المدرسة ، قسماً سأهشّم
رأسه ، سأضربه حتّى الموت .. فلا تسخر منّي ياوغد ، وإياك أن تذكر شيئاً أمام أختك
" سميرة .
ما كان عليّ أن أهرب ، كان عليّ أن أحمل
سلاحاً ، وأن أجد حجراً ، بدل أن أهرب .. اللعنة على الحجارة ، حين نحتاجها لا
نجدها .. ما أبشع الهزيمة ؟!.)) .
ظلّ " رضوان " هكذا متوارياً
، يفكّر .. وها قد حلّ الظّلام ، ولا بدّ له أن يعود ، قبل أن يتفقده أبوه .
وفي اليوم التالي ، استطاع " رضوان
" أن يحتال على أبيه ، ولم يذهب إلى الشغل، نهض من فراشه متّجهاً نحو المطبخ
، وأخذ يتفحّص السكاكين، فانتقى واحدة لينتقم بها لكرامته ويستعيد ماء وجهه من
خصمه ، وبسرعة أخفاها وراء ظهره ، حين دخلت عليه أمّه سائلة :
- لمَ تركت
فراشك وأنتَ مريض ؟ .
فهرب أمامها دون أن تلمح السكين ، إنّه
لا يخافها على الإطلاق ، وهي أيضاً تتستّر عليه فلا تخبر والده بما يفعله . ولقد
كتمت أمر تدخينه السّجائر أمامها رغم تهديداتها المتكررة .
كان عليه أن ينتظر ، ريثما يحين موعد انصراف
طلاب المدارس ، فقضى هذا الوقت في محاولة تجربة السّكين في قطع الأشياء ، وقام
بالتدرّب عليها ، حيث يقفزها بقوة عن بعد، فتعلق بأعمدة الكهرباء . لم يشأ أن
يقابل " سامحاً " ، أجّل ذلك ريثما يسترد كرامته ويحقق انتقامه ، وأقسم
:
- (( لو أنّي
رأيته الآن ، وشعرت بأدنى بادرة منه على السّخرية والتقليل من شأني ، لكنت قتلته
بالسكين فوراً . )) .
انصرف الفوج الأول ، وتدفق الأولاد مندفعين
مبتهجين لاستعادتهم حريتهم ، فأسرع إلى زقاق معركة الأمس ، مصمماً على الانتقام ،
في نفس المكان الذي شهد انهزامه ، حتّى لا يشعر بالخجل والعار كلّما مرّ به .
وقف عند الزاوية مترصداً الذاهبين
والقادمين إلى أن برز خصمه قادماً من بعد ، خفق قلبه في حين اشتدّت قبضته على
السكين .. اختبأ عند المنعطف محدثاً نفسه :
- (( سأباغته
بطعنة في بطنه .. وأهرب .)).
حينما اقترب ذو المحفظة السّوداء ، وصار
بمحاذاة المنعطف ، برز له " رضوان " شاهراً سكّينه بيده ، انتبه الولد
لهذه الحركة السّريعة ، فتجمّد مكانه لا يعرف ماذا يفعل ، فسارعه " رضوان
" بهجمة تريد أن تصل بطنه بطعنة خارقة ، وقبل أن يصل إليه ، انقضّت يد جبّارة
لرجل شاهد " رضوان " يمشي خلف خصمه ، ولكنه لا يدري كيف غفل عنه .
زعق الرجل وهو يشد بقوة يد "
رضوان " :
- ارمِ
السّكين على الأرض ياكلب .. كدت تقتل ابني .
سقطت السكين .. وصرخ
" رضوان " :
- دخيلك
ياحجي .. اتركني .
في تلك اللحظة شاءت الأقدار أن ينعطف
" قدور .. أبو سامح "، في هذا
الزقاق ، ويبصر ابن أخيه، فركض نحو الرجل صارخاً:
- "
تترجّل " على ولد ياجبان .
- سألعن
والده .. كاد يقتل ابني .
لم يحتمل " قدور " وسدّد قبضة
قويّة على عين الرجل ، فترنّح الرجل بينما كانت يده تضغط مكان الضّربة ، وبدأ
الصّياح،فالتمّ الأطفال حول المتشابكين
وفتحت النساء الأبواب وبدأن بالصراخ .
وفجأة .. وبسرّعة فائقة ..
انحنى الرجل والتقط سكين " رضوان " وقبل أن يتفاداه العم " قدّور
" ، كانت السّكين قد استقرّت في بطنه ، تعالت الأصوات
.. والصرخات .. من كلّ صوب ، بينما كانت عينا
العم شاخصتين ، لقد أذهلته المفاجأة ، وانطلق الرجل القاتل يعدو .. ومن خلفه ابنه
..
ووقف " رضوان " يبكي ، لا يعرف كيف
يتصرّف ، ولم يتحرّك إلاّ بعد أن خرَّ عمّه على الأرض ، فأخذ الطفل " رضوان
" يركض صارخاً :
- لقد قتل
عمّي " قدّور .. عمّي مات .
مصطفى الحاج حسين .
حلب