محمد البكرى سعيد شريف
رواية .. المتاهة(الفصل الثالث)
:::::::::::::::::::::::::
(
الفصل الثالث ) ::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::::
انتصف النهار فى مدينة شرم الشيخ ، حين كان المختار سمعان يجلس فى المقهى
بمحطة اتوبيس "شرق الدلتا" . طال الانتظار دون جدوى . خرج من المقهى
يتلفت ، لعله يجد سيارات أجرة خاصة أو ميكروباسات . بدء السير على غير هدى متخذاً الطريق الرئيس
المؤدى إلى الهضبة . لمح سيارة نصف نقل قادمة وهى تحمل "فنطاس" ماء كبير
، فأشار إلى سائقها فتوقف . عرف منه أنه متجه إلى مدينة الطور ، فاستسمحه أن يقله
فى طريقه مقابل عشرون جنيها ، فوافق السائق وهو يطلب عشرين آخرى . ابتسم سمعان وهو
يدفعها جميعها للسائق مقدماً .
كانت الساعة
الخامسة مساء حين وصل سمعان إلى مدينة الطور ، فجلس على المقهى المقابل لموقف
السيارات بجوار فندق "مكة" . تناول بعض "سندويتشات" الفول
والطعمية ، ومن خلف نظارته الشمسية كانت عيناه لا تكلان عن الحركة ، وهى تبحث فى
وجوه السائقين المحيطين به عن الشخص المناسب لما يريد ، وأخيرا رآه ، كان يحوم حول
سيارته الجيب . شاباً لم يتجاوز العشرين من عمره إلا بالقليل ، أو هكذا كانت تنبئ
هيأته . له نظرات ثاقبة توحى بالذكاء ، وجبين مقطب يوحى بالغضب من شئ ما . من
خطواته أحس أنه صاحب عزيمة ، ومن قسمات وجهه استشعر حبه للمغامرة .
***********************************
قام سمعان يجذب الكاب
الذى يضعه فوق رأسه ليخفى جبهته ، وبيده الأخرى لف الشماخ الفلسطينى حول كفيه
ليخفى جزءا من ذقنه وهو يقترب من الشباب بثقة وهدوء . القى عليه السلام ، فتوقف
الشاب يتفحصه وهو يقول :
: تعرفنى ؟!
فأجابه بعفوية وتلقائية .
: ومن لا يعرف أشجع شباب الطور وأكثرهم شهامة .
: الله يحييك .. لا تؤاخذنى .. حضرتك !!
رد سمعان بثقة كاملة .
: أخوك عودة السلمان من فلسطين .
: حيا الله الأخ عودة .. أى خدمة ؟
لم يتردد سمعان وهو يخرج
خمس ورقات من فته المائه جنيه ويدفعها إلى محدثه وهو يقول :
: شرفنى باسمك الكريم .
: أخوك صالح الشامان .
: يا أخ صالح .. هذه النقود لك وأريد الوصول إلى القاهرة .
فاجأة سمعان وهو يختصر كل
شئ . كانت الدنيا كلها ، قد غدت تميل إلى الاختصار والنفاذ إلى الهدف مباشرة فى تلك الأيام . وبنفس الطريقة رد صالح قائلاً :
: ألف جنيه وأوصلك إلى السويس ، وما تطلب منى عبور النفق . هناك دبر حالك
بنفسك .
: هكذا لن تترك لى سوى بضعة جنيهات قد لا تكفى للوصول إلى القاهرة !
: يا أخى .. الطريق غير أمن والكماين على الطرق المرصوفة فى كل مكان . سنسلك
مضطرين الطريق الوعر بين الجبال والوديان ، وما فى غير أخوك صالح فى الطور كلهما
يوافق على رحلتك ولو دفعت فوق الألف .
: اتفقنا يا شيخ صالح .
: أشرب القهوة لحين ما أجهز السيارة وأشترى جالونين بنزين احتياط .
****************************************
انطلقت السيارة الجيب فى مدقات لا تسلكها حافلات الركاب ، وصالح يدندن مع
أغانى الكاسيت البدوية . كان مليئاً بالنشاط طوال الطريق ، وبعد نحو ثلاث ساعات
توقف عند مضارب خيام لقبيلة بدوية وهو يتحدث إلى سمعان بصوت عال ، بينما يفتح باب
السيارة للنزول ..
: ها دول أولاد عمى .. سنرتاح قليلاً قبل أن نكمل الطريق .
ما أن أتم كلماته حتى خرج
إليه شاب فى مثل عمره مرحباً ومعانقاً وهو يقول :
: يا هلا .. يا هلا .. فينك يا بن الشامان !!
: والله يا موسى مشاغل الدنيا ، وأحوال البلد . السواح رجعوا لبلادهم والحالة
.. هه .. والله صاحب الفضل اليوم الأخ عودة . إنزل يا عودة أجلس معنا .
جلس سمعان
صامتا يحتسى فنجاناً من القهوة العربى الخضراء المخلوطة بالهيل ، على ضوء النار
التى أشعلها موسى .
وقبل أن يستأنف رحلته مع
صالح رأى ما أثار دهشته من هديه المضيف ،
تلك التى أهداها موسى لابن عمه صالح .. "فرش حشيش" ، ومسدس عيار
تسعه مللى ، وكيس قماش ملئ بالطلقات .
**********************************
كان القمر بدرا فى السماء ، يرافق سمعان وكأنه يراقبه من بعيد ، وهو خائف
على ذلك الشاب الذى أحب الأرض التى يعشقها القمر منذ الأزل ، أكثر من كل بلاد
الدنيا .
كانت عينا سمعان تتطلعان
الى القمر طوال الوقت ، وسماء سيناء الصافيه لا تحرمه من إرسال ضيه إلى البشر ،
الذين أحبهم مثلما أحبوة وتغنوا به فى أشعارهم .
وصل سمعان أخيراً إلى مدينة السويس شرق القناة . شكر صالح الذى نزل من السيارة ليودعه ويسلم عليه بحرارة . شكره
سمعان على شهامته وهو يدفع له الخمسمائه
الباقية ، وقبل أن يستدير صالح ليتحرك بسيارته ، كان سمعان يعد بصوت مرتفع حتى رقم
عشرة نقودا من فئة المائة جنيه ، ليعلق صالح الشامان ضاحكاً ..
: يعنى معك مصارى يا عودة ، والله تعلمتم الشطارة من اليهود .
فضحك سمعان وهو يقولها
جازما ..
: هذه ليست نقودى . إنها أمانة أوصلها لأهلها ، ولكنى سأدفها جميعها لك مقابل
المسدس والزخيرة ، وسأتدبر غيرها لأصحابها عند عودتى لأهلى .
ومرة أخرى اختصر صالح
الدنيا وهو يقول :
: والله ما أفاصل معك .. مبروك عليك .
قالها وهو يدفع إلى سمعان
السلاح والزخيرة ، وبيده الأخرى يأخذ النقود ويدفسها بجيب جلبابه ، ثم استدار وهو
يلمح سمعان بطرف عينه قائلاً :
: الله معك يا أخ عودة !!
***********************************
اقترب سمعان من نفق الشهيد "أحمد حمدى" . كانت السيارات مكدسة ،
وأخبرة أحد السائقين عن إعلان غلق النفق لمدة يوم لأعمال صيانة طارئة .
ابتعد موسى
عن الزحام وقادته خطواته حتى شط القناة ودون وعى كامل منه . وقف ينظر إلى الأنوار
على الشط الآخر للقناة ، تذكر شاطئ العجمى ، وكيف أحس هناك بنبض الأرض يترد فى
جوانب نفسه ، وهى تقبل بنوتها له ، حين احتضنها
ونام فوق رمالها ذات يوم .
أحس
بمشاعر فياضة تغمره والكون من حوله يكتسى بالفضة التى يلقيها القمر . تحيطه هدأه
الليل وصوت ارتعاشة ماء القناة . وكأنها كائن حى خائف من شئ ما . تمدد على الأرض
وهو ينظر إلى السماء الصافية بينما القمر على عهده يذيب الفضة ويلقيها على وجه
الماء المرتعش ، أحس بمخدر يسرى فى عروقه وأصابع الكون حوله تلعب على أوتار قلبه .
شعر بمزيج غريب من الوجل
الجميل والغموض المحير . ازدادت ارتعاشة قلبه فأغلق عينيه وغلبته سنة من النوم ،
ليرى فى منامه خريطة مصر كما يرسمها الأطلس .
" تجسدت الكرة الأرضية أمامه وكأنه يراها من كوكب قريب . تعجب وهو يرى أرض
مصر من ساحل البحر فى الشمال وحتى حدودها الجنوبية تنتفض فى قوة وكأن زلزالا
أصابها ، ثم قامت الأرض لتقف منتصبة فى الهواء وكأنها مارد انشقت عنه الكرة
الأرضية ، قدماها حدودها الجنوبية ، ورأسها ساحل البحر الأبيض الذى اجتاز السماء
حين انتصبت واقفة .
أحس نفسه ينزلق على وجه الأرض وهى تشب على أقدامها ، فامتدت يديه تمسك بقوة
فى نتوءات بارزة ، وأخذ يتسلق كما يفعل هواه التسلق الحر للجبال ، حتى وقف عند
الرأس ليلمس بيده سحباً تتحرك حوله ، رأى كوكباً صغيرا يضئ بشدة ، ويقترب منه
ليراه بوضوح أكثر ، وظل يقترب حتى أصبح فى متناول يده وكأنه لؤلؤة فى حجم برتقالة
، وحين مد يده ليأخذها زلت قدمه وسقط من هذا العلو الشاهق " .
************************************
قام من نومه مضطربا يتلفت حوله . كان يتذكر الحلم وكأنه حقيقة عاشها منذ
لحظات . وقف ينظر إلى صفحة الماء لفترة طالت ، ودون أن يعى تماما بدأ يخلع ملابسه
ويضعها داخل حقيبته الصغيرة ، لم يكن بها غير زجاجة ماء وغيار داخلى وشراب وماكينة
حلاقة وزجاجة كولونيا صغيرة ومنشفة والمسدس الذى اشتراه من صالح البدوى والزخيرة ،
خلع ملابسه وحشر كل شئ داخل كيس بلاستيك من أكياس الزبالة كان بحوزته ، وكان قد
اشترى بعضاً منها فى طريق العبور إلى سيناء من مدينة الإسماعيلية ليعطيها للراغبين
، وقد لاحظ أن بعض المسافرين معه يتقيأون وهم غير معتادين على ركوب السيارات لفترة
طويلة . أحكم غلق الكيس وربطه على ظهره مستخدماً الشماخ الفلسطينى وتقدم إلى الماء
ليسبح حتى الشاطئ الأخر للقناة .
أحس بالانتعاش يسرى فى أوصالة وهو يجفف جسده .. ارتدى ملابسه مرة أخرى
وبخطوط نشطة كان يبتعد عن القناة وقلبه يسبقه إلى القاهرة ، وهو يتمنى أن يصلها فى
ستر الليل .
اتجه سمعان
صوب محطة الحافلات التى كانت من قبل ذاخرة بالحركة طوال الليل والنهار ، فلم يجد
غير حافلتين إحداهما "مينى باص" به راكبين فقط ، اقترب من السائق وهو يخرج علبه سجائره . أشعل
له سيجارة وهو يطلب منه أن يتحرك قبل أن يكتمل ركاب السيارة السبعة وهو يعده أن
يتحمل أجرة المقاعد الخالية .
ابتهج السائق وهو يرحب بهذا
الزبون المتعجل ، وتحركت السيارة صوب القاهرة ، وبعد قرابة ساعتين كان سمعان يقف
بميدان التحرير . إتجه إلى شارع قصر النيل ومنه إلى شارع عدلى ، وأمام المنزل رقم
"18أ" لمح شرفة الدور السادس ، وضوء خافت يتسرب من خلف الشيش ، فدب
النشاط فى أوصاله وقد اطمئن إلى أن "سارة " ليست بالخارج .
ضغط الجرس لترد
"سارة " وكأنها كانت تقف وراء الباب فى انتظار قدومه ، وحين عرفت أنه
سمعان استأذنته فى دقيقة لترتدى شيئاً فوق ملابسها . مرت تلك اللحظات طويلة حتى
فتحت له ليقترب منها .. نظرت إليه نظرات مضطربة فمال يقبل رأسها قائلاً :
: أنا آسف يا سارة !!
لم تنطق سارة بكلمة
واتجهت إلى الانترية وهى تسأله :
: كنت أعد الشاى لنفسى وأنت تطرق الباب سأجهز لك بعض الطعام أولاً لنشرب
الشاى معا حين تنتهى من طعامك ، واضح أنك قادم من سفر بعيد . الإجهاد وقلة النوم باديان عليك .
**************************************
جلست سارة على مقربة من سمعان وهو يتناول طعامه ، تسأله عن أحواله وتعتب
عليه ودموعها تغلبها ، لأنه لم يفكر منذ اندلاع الأحداث فى الاطمئنان عليها .
كان
سمعان يعثر بصعوبة على الكلمات ، ليعتذر لها ويسترضيها وهو يحاول أن يبرر نفسه ،
شارحاً لها بإيجاز ما كان يشغله ، وكعادته وبدون مقدمات اختصر الطريق وهو يطلب
منها أن ترافقه إلى "شرم الشيخ" لتكون إلى جواره ، وحين لاحظ ترددها قال
بنبرة توحى بنفاذ صبره : سارة .. تلك وصية
أمى .. أرجوك لا تحرمينى من رعايتك ، على الأقل فى تلك الظروف !
: سمعان .. ليس لى ما أبكى عليه هنا
بعد وفاة أمى ، ولكنى لا أرغب فى أن أكون عبئاً عليك وأنت تحارب من أجل قضية تؤمن
بها ، وهى قضية جديرة بالاحترام وأنا أوافقك عليها !
: لن تكونى عبئاً يا سارة ، العكس هو الصحيح ، ستكونين عوناً لى ، فأنا احتاج
إلى وجودك بجانبى وسأسعد بهذا .
: حبى لمصر لا يقل عن حبك لها . أنا مدينه لهذا البلد . لو كنت فى إسرائيل مع من هاجروا من الأجداد
لكنت مواطنة من الدرجة الثانية هناك ، وأنا من "السفراديم" يهود الشرق
، ولست من "الأشكانزيم" يهود
أوروبا ـ . أنا هنا أشعر أننى مثل كل المصريين ، ولا أكذب عليك إن قلت أننى أشعر
أن المصريين يميزوننى على أنفسهم ، ويتعاملون معى على أساس أننى مواطن صالح مرغوب
فيه ومرحبا بوجوده . تلك هى مصر من قديم الأزل ، معمنا ومع أجدادنا وأجداد
أجادادنا منذ النزوح الكبير من أوروبا ، ومحاكم التفتيش . حتى
فيما هو أبعد ، حين هاجر اليها جدنا ابراهيم ، ومن بعده
يعقوب ، هربا من المجاعة ، وادى النيل هو ما ابقى
شعب اليهود حتى اليــوم !
: والآن لديك الفرصة لتعبرى عن امتنانك أو لنقل لتحاولى رد الجميل .
: متى تنوى الرحيل ؟
: سأنام بضع ساعات وحين استيقظ سنسافر إلى المنصورة أولاً للاطمئنان على أسرة
المختار محمد ، وربما اصطحبناها معنا فى طريق العودة .. سنعود إلى سيناء وسنعاون
فى عودتنا كل من يحتاج إلى العبور . من يدرى ربما كان مطلوب منى أن أعود مرات
ومرات لاصطحب من يحاولون الفرار من الموت !!
***********************************
قامت سارة من نومها فى الثامنة صباحاً كعادتها رغم استيقاظها حتى قبيل
الفجر بقليل . لم توقظ سمعان وتركته حتى يستيقظ
من نفسه . أعدت حقيبتها الصغيرة ، وأخذت قهوتها لتشربها فى الشرفة المطلة على
شارع عدلى ، والتى ترى منها المعبد اليهودى القديم فى الجهة المقابلة من الشارع ،
حيث تؤدى صلواتها بانتظام .
سارة فى
السابعة والعشرون من عمرها ، فتاة مصرية بكل المقاييس .. شكلا وموضوعاً . تميل إلى
الخجل وأحياناً العزلة ، عاشقة للأدب العربى والإنجليزى خصوصاً كتابات توفيق
الحكيم ، ونجيب محفوظ ، وتشارلز ديكنز . تكتسى بشرتها بلون برنزى
يقرب من لون النيل الذى رواها . شعرها الناعم العسلى كلون عينيها يصل إلى قرابة
منتصف ظهرها ، تتركه دون تسريحه مميزة لينسدل خلف كتفيها ، تتعامل معه فقط من خلال
مشط ذو أسنان كبيرة . عيناها تتطلعان دوما فى دهشة وبراءة لا تفارقها معظم الوقت ،
وكأنها ترى الأشياء للمرة الأولى .
لها أنف مميز يميل إلى
الطراز اليهودى ، ينسجم مع وجهها البيضاوى ورقبتها السامقة . تمشى فى ثقة وكتفاها
للخلف قليلاً ، لا تميل إلى السمنة ، ولا تفضل الكعب العالى مما يضفى لمحة من الجد
فى مشيتها رغم أنوثتها الفواحة . صوتها الرخيم به بحة خفيفة تضفى ألفة وحميمية على
حديثها .
غالباً ما تضع إيشاربا
خفيفاً بألوان مبهجة تلفه حول رقبتها ، هذا إن كانت سعيدة ومعنوياتها مرتفعة ،
وتستحيل ألوان إيشاربها إلى الدرجات الداكنة إن أصابها ضيق أو حزن . غالباً ما
يصاحبها الإسى وهى تكتب الشعر . لم تعش أى قصة حب كما تفعل الفتيات فى سن المراهقة
والشباب . كان يكفيها كتاب بيدها تقرؤه وتعيش مع أفكار كاتبه ، لتغنيها عن ملذات الحياة الحسية ، أنهت دراستها
للكومبيوتر ونظم المعلومات فى أكاديمية المستقبل بميدان الحجاز بمصر الجديدة . لم
تتعارض صداقتها للكومبيوتر مع عشقها للأدب والتاريخ والفلسفة .
لم تخطر فكرة الزواج
ببالها كثيراً ، وهى تعتقد أن سن الزواج المناسب للفتاة هو الثلاثين . ظنت أيام
دراستها الثانوية أنها تحب سمعان ابن خالتها ، وسرعان ما اكتشفت أنها معجبة به فقط
، وأن الحب شئ أكبر من الإعجاب عليها أن تنتظر حتى تلقاه .
*********************************
رن جرس التليفون وسارة على وشك الانتهاء من كوب الشاى . كانت تحس البهجة من
الصباح الباكر فقامت تجرى بخطوات مرحة وهى تسأل نفسها .. لماذا ؟!
سمعت صديقتها
"ايزابلا" على الطرف الآخر تطمئن عليها وتدعوها لتناول الغذاء مع أسرتها
. اعتذرت بلطف وهى تحكى لها عن مجئ سمعان المفاجئ ، ليصطحب مزيداً من المصريين
الراغبين فى الابتعاد عن الوادى وحتى انتهاء الأزمة ، ولم تنهى مكالمتها حتى رجتها أن تتصل بالعائلات
الخائفة من اليهود ، لأن سمعان سيتكفل بالراغبين فى الرحيل .
أنهت المكالمة حين سمعت
وقع خطوات سمعان ، فأسرعت تلقى عليه التحية وهى تتجه إلى المطبخ لتعد له الأفطار .
أخذ سمعان حماماً دافئاً
وارتدى ملابسه وهو يطلب من سارة أن تستعد للرحيل . ومن ميدان التحرير كانا يستقلان
اتوبيس شركة الجونه المتجه إلى الإسكندرية ،
وعند مدخل مدينة طوخ تذكر سمعان عزبة الباشا ، ولقاءاته مع المختارين هناك
. كان يأتى من الإسكندرية بالقطار حتى مدينة طوخ ليستقل أى مواصلة إلى عزبة الباشا
القريبة . تذكر حقول البرتقال وأكلات الريف البسيطة ، وأريج الحدائق المتناغم مع
غناء الطيور طوال العام .
وصل الأتوبيس إلى مدينة
بنها بعد دقائق ليعيش مع ذكرياته هناك ، حين التقى بالمختار أحمد ليصطحبا فى
طريقها إلى عزبة الباشا الدكتور عادل ليلتقى بحبيبته كرستينا التى لم يكن يعرف
أنها ماتزال على قيد الحياة بعد انفجار الموقف فى العزبة .
مضت السيارة مسرعة ،
وأخيراً لاحت مدينة طنطا فأشار للسائق برغبته فى النزول على الطريق السريع مقابل
جامعة طنطا . ومن هناك استقلا سيارة إلى مدينة المنصورة .
كان سمعان يحفظ العنوان
ويردده فى نفسه ، وكأنه ترنيمة يتغنى بها . لم يضطر للسؤال كثيراً حتى ألفى نفسه
أمام الشارع الذى يقيم فيه الحاج/ سيد والد نجوى زوجة المختار محمد . تعمد سمعان
ألا يسأل أحدا من أصحاب المحلات وهو يعتمد على التركيز واسترجاع الوصف ، ورغم
افتقاد المنازل للأرقام ، فقد كان سهلاً عليه أن يحدد البيت بمركز السلام
للاتصالات الذى يحتل الدور الأول من المبنى ، وإعلان شركة موبنيل البرتقالى المضئ
فوق أبوابة ، وبالدور الثالث طرق الباب المواجة للسلم ليفتح له أبن المختار محمد .
أدهم ذو الأعوام الثمانية ، عرفه المختار سمعان على الفور وهو يحس فيه ملامح أبيه
، ونفس النظرة الهادئة النافذة . كانت سارة تتقدم سمعان فمالت على أدهم وقبلته .
وحين سألها مستفسراً :
: حضرتك قريبة ماما ؟
: إنت أدهم ؟
: هل تعرفينى ؟
: طبعاً يا حبيبى .. ممكن تنادى ماما .
: ماما ماتت !
..................................................................
اضطرب سمعان والطفل يفجز تلك المفاجأة ، وقبل أن يفكر فيما سيقول أتى الحاج
/ سيد يستطلع الأمر . رحب بالضيوف ودعاهم للدخول وهو يحدثهم عن وفاة ابنته منذ
أيام بطلق نارى ، حين خرجت لشراء بعض حاجيات أولادها فهاجمها بعض الشباب لسرقة
أسوره ذهبية بيدها . قتلها أحدهم بمجرد أن فكرت فى المقاومة ، ليقوم الآخر بقطع
يدها عند الرسخ ليسحب الذهب مطلى بالدماء .
بكى الرجل بحرقة وهو يحكى
عن موت ابنته ، حتى دخل عليه ابنه منصور يربت على كتفه ويقبل رأسه وهو يحاول أن
يهدئ من روعه .
دفع المختار سمعان
بالرسالة التى كتبها المختار محمد إلى منصور ليقرأ ما بها :
زوجتى الغالية
يحمل رسالتى
إليك المختار / سمعان الذى حدثتك عنه كثيراً من قبل ، وسوف تعرفينه من الصور
الفوتوغرافية التى التقطناها لجماعة المختارين فى مناسبات عديدة . أرجو أن تثـقى
به ثقتك فى أخيك ، وإن رغبتى وهذا ما أتمناه وأرجوه ، فى القدوم إلىً أنت والأولاد
فسوف يصحبكم . أعرف أنه سيفديكم بحياته إن لزم الأمر حتى تصلوا سالمين .. تحياتى
للأب الكريم الحاج / سيد ولأخيك منصور ، وإلى أن نلتقى قبلاتى لك ، وللحبيبة بابا
"أبرار" ، وابنى الغالى "أدهم" .
***********************************
إلتف الأسرة المنكوبة حول سمعان وسارة ،
التصق أدهم بسمعان وكأنه يشتم فيه رائحة أبيه ، وأبرار ذات الأعوام العشرة
جلست بجوار سارة وهى تلف يدها حول خصرها ، تستعوض فى دفء جسدها ما فقدته فى رحيل
أمها .
امتدت يد سارة تضم أبرار
الجالسة إلى جوارها ، وهى تحاول أن تطمئنها . اعتصرتها فى رفق فمالت برأسها عليها
، وكأنها تتسمع بأذنها دقات قلب حرمت منه منذ مقتل أمها ، فباتت متلهفة على دقات
أخرى تعوضها ، بعض ما تفتقد وتشعر معها بحنان من رحلت !
قطع المختار
سمعان الصمت الذى خيم للحظات قائلاً :
: أتيت كل هذا الطريق لأصطحب أسرة المختار محمد ، والآن وبعد فاة السيدة/
نجوى رحمها الله ، هل ستوافق يا حاج/ سيد وأنت يا أستاذ / منصور على اصطحاب الأولاد
معى ، ولو كانت لديكما رغبة فى الرحيل إلى سيناء ، فسوف يسعدنى اصطحابكم جميعاً
والوصول بكم سالمين إن شاء الله .
وقبل أن يفكر
الحاج سيد فى الرد كانت أبرار وأدهم ، أسرع وهما يجيبان فى صوت واحد متحمس :
: " سوف نسافر معك .. لا نريد أن نبقى هنا .. احنا مشتاقين
لبابا أوى "
اندهش الجد مما كان يختزنه الطفلان فى قلبيهما ولا
يبوحان به لأحد ، إلى أن كشف الموقف عن المشاعر المستترة ، فالتفت يقول لأبرار :
: وبابا جدو يا أبرار .. هان عليك أن تسيبيه !
: تعال معنا يا جدو .. أنا أكره مدينة المنصورة .. يا جدو . الناس هنا قتلوا
ماما من غير ذنب ، ليه نعيش هنا ؟!
أحس الحاج / سيد بالأسى
واليأس من كلمات الطفلة الصغيرة فأطرق وهو يقول :
: عندك حق .. وأنت يا أدهم ؟!
قال كلمتيه الأخيرتين
مستسلماً والضعف والوهن يحوطان قلبه وعقله وحنجرته .
ليرد أدهم بتلقائية ..
: أنا اشتاق كثيراً لبابا يا جدى ، ولكنى سأعود مرة أخرى ومعى بندقية لأقتل
بها من قتلوا ماما ، وسكينة كبيرة أقطع بها رقابهم ذى ما قطعوا إيدها !
قال الطفل كلماته دون أن
يبكى . كانت الدموع تقف فوق مآقيه فصار لها بريقاً حاد ومخيفاً رغم حداثة عمره .
**************************************
أرجأ الجد قراره وهو يرجو سمعان وسارة أن يبيتا حتىالصباح . تناولوا الغذاء
معا ، وقبل أن تغيب الشمس طلب الحاج سيد
من ابنه منصور أن ينزل لشراء بعض حاجيات المنزل قبل حلول الظلام ، ودواء الضغط
الذى نفذ .
أصر سمعان أن
يصاحب منصور ليعاونه . كانت السوق خالية تقريباً من كل ما كانت تعرفه أسواق مصر من
وفرة الخضراوات والفاكهة ، بالكاد عثروا على بعض الخيار والطماطم وبعض البطاطس
الرديئة ، التى كانوا يترددون قبل ذلك فى
تقديمها للطيور وهم غير واثقين من قبولها لها .
وعند نهاية
شارع السوق بدء سمعان ومنصور طريق العودة ، حصلاً على بعض السكر والشاى بأسعار
مضاعفة من رجل يقف فى مدخل بيته يبيع بعض السلع التموينية ، وحوله أولاده وقد
سلحهم جميعاً بسنج وسيوف تعتمدوا أن يجعلوها ظاهرة للعيان ، وأيضاً بندقية خرطوش
بما سورة قصيرة مصنعة يدويا يسميها المصريون
"مأروطة".
كانت أسرة التاجر تشعر أن
فى هذا الاستعراض ما يكفى لدرء أخطار الهجامة ، أو حتى بعض الأهالى الغير قادرين
على شراء ضرورياتهم ، والذين بغير وعى منهم يتحولون أحياناً وفجأة إلى أشخاص
عدوانيين من أجل الطعام .
لم تطل
خطواتهم حتى انحرافا يميناً إلى شارع شرف الدين حيث صيدلية الإنسانية الواقعة أسفل
العمارة التى تحتل ناصية الشارع . أعطاهم الصيدلى الدواء وهو يستحث عمال الصيدلية
لإنهاء العمل ، وغلق باب الصيدلية الذى دعمه بباب حديد إضافى قبل الباب الصاج ،
وكانت عادة أصحاب المحلات تلك الأيام ألا يدعوا الليل يدخل عليهم وهم بمحلاتهم ،
وقد سيطر الخوف والتوجس على الجميع . خطا سمعان ومنصور خطوتين خارج الشارع وما
كادوا حتى دوت طلقتان فى اتجاههما . كاد منصور من خوفه والطلقة يحس مروقها إلى
جوار أذنه أن يكبو على الأرض ، جذبه سمعان للخلف وقد أدرك ما يحدث حوله ، وعادا
للصيدلية مرة أخرى . كانت عينا سمعان تلمعان وتدوران بسرعة فى أرجاء المكان
والصيدلى يهدر بصوته !
: لقد تأخرنا .. ولاد الكلب لا يفوتوا فرصة .. سنغلق من الداخل وننتظر حتى
ينصرفوا .
لم يلتفت
سمعان إلى ما يقوله الصيدلى ، كان همه الأوحد أن ينجو بمنصور بأى شكل ، ولو دفع
حياته ثمنا لهذا ، ولم يكن يتصور إمكان أن يحدث له شئ ، وكأنه أب تجسدت فيه كل
مشاعر الأبوة وهو يفكر كيف ينقذ ولده .
أغلق عمال
الصيدلية الباب من الداخل بينما سمعان ينشب أظافره بعود حليه من الألومنيوم مثبت
على الحائط ضمن أربعة عيدان تحدد معالم لوحه لمنظر طبيعى ملصق على الجدار ، ثم
انتزع العود الأخر الموازى للأول دون أن يشعر أنه جرح إصبعه ، وطاوعه البرواز
النائم فوق الجدار منذ سنوات طويلة ، وكأنه كان يتوق إلى الحرية من سجن تلك
المسامير الصغيرة التى تشده إلى الحائط كسجان غليظ القلب . وضع العودين بشكل
متقاطع وكأنه عاد صبياً صغيراً ماهراً فى إعداد طائرته الورقية ، وثبت العودين
بشريط بلاستر جروح بحماس محموم . فعل كل
شئ وألقى بورقه من فئة المائة جنيه فوق الخزينة ، ثم جذب ستارة معلقة على باب
المعمل والتى يستتر وراءها من اضطره المرض لأخذ حقنة العضل بالصيدلية . ألقى
الستارة على الهيكل الذى صنعه وجعلها أطول قليلاً جهة الأسفل لتصل إلى الأرض ،
بحيث لا يرى من يقف بالجهة الأخرى أقدام من يتحرك وراءها . كان الصيدلى يقف مبهورا
أو مأخوذا بما حدث فى لحظات ، وكان آخر ما سمعه كلمة سلام . القاها إليه سمعان وهو
يطلب من أحد العمال أن يفتح له باب الصيدلية .
دفع منصور أمامه وهو يطلب
منه أن يعدو أمامه بأسرع ما يمكن تلك الأمتار الفاصلة عن نهاية الشارع ، وأن
يستدير يمينا بمجرد الوصول . كان سمعان يضع الستارة بينه وبين الاتجاه الذى أتت
منه الطلقات وبالفعل مكنه هذا الابتكار السريع والعجيب والمجنون من إنقاذ حياته
وحياة منصور ، ورغم أن مطلقى النار صوبوا إليهما رصاصة أخرى ولكنها اخترقت منتصف
الستارة وكان سمعان يتوقع هذا وقد أدرك من البداية أنه يتعامل مع هواه يلهون ، لذا
كان يمد يده إلى أقصاها وهو يحمل الستارة من مركز التثبيت ويجرى خلف منصور ملتزماً
أقصى اليمين بالقدر الذى يخفيه خلف الستارة ، مع حرصه أن يظل طرف الستارة مسحوباً
على الأرض حتى لا يرى مطلق الرصاص موضع أقدامهم . كان يقول لنفسه .. حتى لو صدفت
معهم رصاصة فسوف تصيبنى أولا ، ولن تصل إلى منصور الذى يجرى أمامى !
وهناك عند
نهاية جدران الصيدلية الملتقية بالشارع المتعامد كان يلقى ابتكاره العجيب وهو يعدو
مع منصور ، يسابقان الريح حتى وصلا إلى المنزل سالمين وهما يلهثان .
_______________________________________________________ د /
محمد البكرى
رقم الإيداع ( 24278 /
2009 م )
الرقم القومى ( 101513 )
الترقيم الدولى ( 6505 - 17 - 977 )
{ 6 أكتوبر - الحى المتميز - ش محمد رفعت } ( تمت فى نوفمبر 2008 م )