حامد حبيب
الأدبُ بين عصور الرخاء وعصور الشدّة
إننا بين
أمرين متناقضين عن
المُنجَز الأدبى وملامحه بين عصور
الرخاء وعصور الشدة ...
هناك ملامح خاصة
للأدب تتغيّر بحسب
ماعليه العصور ، إن كانت تنعم
بالاستقرار أو تجترّ مآسى
الحياة من نزاع وتشرّد وضعف.
فقد اشتدّت العناية بالادب وكثر
تذوّق الفن وعظُم الإقبال على صنوف
العلم أثناء نهضات الأُمَم ، بعد
تحقيق انتصارات سياسية
وطموحات وطنية ، وكانت تلك الحياة
الفكرية الخصبة إحدى نتائج هذا الاستقرار وثمرة من ثمراتِه ، ففى روما ،
عندما ثبت القانون وتوطّد
النظام واستتبّت الأحوال
ورقّت
الطبائع النافرة ، ساد فيها الفن ،
وعمّ الأدب ، وارتفع شأنُ الحياة الفكرية
، ولما انتهى عصر الفتوحات الإسلامية ، كثر
الوصّافون وكُتّاب السِّيَر
و رواةُ الاخبار ، وهذا معناه أنّ الحياةَ الفكرية تنمو وتزدهر
متى تستقرّ الحياة
، ويأمن الناس صولةَ
الثورات
وقسوة الحروب ويظفرون
فى ظل هذا الأمنٍ الشامل بالهدوء
الذهنى والفراغ اللازمَين
لظهور الإبداع ، وبالتالى تتحقق
أزهى عصور الابداع فى ظل هذا الأمن
الشامل.
ولكن يبقى السؤال: هل معنى
ذلك أن عصور القهر والاستعباد والثورات والضعف تفتُر فيه هممُ إلاُدباء
والمفكرين والفنانين؟
الحقيقة خلاف ذلك تماماً...
فإذا كانت عصور الهدوء والاستقرار
صالحة للأدب والفن والفكر ،
فإنّ أوقات الثورات
والحروب والاستبداد تستفزّ المشاعر ، وتهزّ النفوسَ هزّاً عنيفاً
فتتنبّه العزائمُ الراقدة، وتتحرّك أوتارُ القلوب،و تقوى الخواطر ، فيتبع
ذلك ظهور نوع من
الأدب الحُرّ المُفعَم بالرجولة
، وكثيراً ماكانت أيام
الحروب والثورات مبعثاً لجلائل الأعمال الإبداعيةوالمُبتكرات
ولدينا أمثلة على ذلك ...
كان القرن السادس
عشر مثلاً ،
من القرون التى غاصت فى
الثورات وكافة أنواع الحروب
المذهبية الدينية والمعارك السياسية
والاجتماعية ، وكثرت فيه
المُجادلات العلمية والأدبية ، ومع ذلك احتشد فيه أعيان الفكر ،أمثال(لوثر كنج) و
(ميشيل أنجلو)
والشاعرأريستو والكاتب دمونتين والعلّامةاراسموس ومن العلماء (جاليليو) و
(كوبر نيكوس) والفيلسوف
(ڤانينى) وغيرهم كثير ، وانتعشت
مع ذلك الحياة الفكرية ، وكانت
إيطاليا فى ذلك
الوقت مُمزّقة
الأوصال ومسرحاً للفوضى
والجرائم المُنكَرة
والقسوة ، لكنها كانت فى ذات
الوقت أستاذة أوربا وحاملة لواء الحركة الفكرية.
ونهضت ألمانيا نهضتها
الأدبية العظيمة فى أوائل القرن التاسع عشر ،وهى فى ظروف عصبية
، وكانت مُبعثرة الشمل، منتثرة الأجزاء، مجروحة فى عزّتها، ومع ذلك أتمّ فيلسوفها
الكبير(هيجل) كتابَه "ظاهرةُ العقل" ، بينما كانت مدافع جيوش نابليون
تدوى فى أُذُنيه ، وقويت فى ذلك الوقت
النهضة الفكرية فى ألمانيا فى الفلسفة والنقد وطرح نظريات
أصيلة فى اللغة والعلوم.
وفى وطننا العربى ، كانت أجلّ
الكتابات فى شتى فروع الأدب وفى
الفن والصحوة الفكرية ، تلك التى عاصرت الاستعمار المنتشر فى ربوعه،والتى عاصرت
عهود الظلم والاستبداد ،
فخرج من بين أنفاق تلك الحياة
كُتابٌ ومفكّرون ونُقاد
وفنانون مازالوا علاماتٍ بارزة
يُجلّهم التاريخ ، وهم كثير.
فإذا كانت حياةُ
الدّعة والاستقرار تُريحُ
الفكرَ وتمنحه الهدوءَ، فإنها فى ذات الوقت تُخضعه للنُّظم والقوانين،
وتحصره فى حدود العُرف الشائع والرأى العام الذائع.
ألم يأتِ المتنبّى
والمعرّى فى أزمنة
انحلال عُرى الأمة ، وقد تزلزلت الحياة
وتداعت أركانُ الحضارة.
كل الذى نريد أن نصل إليه ، أنّه فى عصور الاستقرار
يسود نوعٌ خاصٌ
من الفكر ، وفى
عهود الشدّة والناس ، ينبعث نوعٌ
آخر مغايرٌ له.
فادب عصور الاستقرار يمتاز بجودةِ الصناعة وحُسن الصّقل وبراعة
الاتّزان وانسجامُ التأليف ،
لكنه مع ذلك خالٍ من الحيوية القويّة ، والروح المتوثّبة،بينما
أدبُ عصور القلاقل والاضطراب
يمتاز بقوة وشدّة أسرِه وعُمقه وغزارته وابتكاراته.
وعهود الاستقرار عهود
اتّزان وانسجام ،
فنفوس أهلها هادئة مطمئنة
غير مأخوذة بالمجهول ولامشغولة بالجهاد والمكافأة .
ولدينا مثال على
ذلك من خلال شاعرَين لاخلاف علي شاعريتهما ، وهما : البحترى
والمتنبّى ، فالأول
رجل عاش أوج الحضارة العربية، فهو
سلِس الطِّباع غيرُ ناقمٍ
ولاساخط ، فهو فى
عصرٌ متّزن ، حيث أسبغت عليه
الحضارة من ظلها
وأمنها ورفاهيتها، والثانى ،عاش
عصر القلق والاضطراب والانحلال ، فيذهلك بقوة روحه وشدة
طبعه وابتكاراته ، فكان كالبركان الثائر الذى يقذف بحِمَمِه
المُستعرة ، والأول كان كالبُحيرة الصافية تموّجاتها لطيفة هادئة...فكان
البحترى مثَلٌ صادق
لأدب الصَّنعة والزخرف ، أما المتنبى فكان خيرَ عنوانٍ لأدب القوة والابتكار
الذى يسود فى عصور القلاقل
والاضطرابات والاستبداد.
------------------------
حامد حبيب_ مصر