العقيد بن دحو
الشعر ، الفلسفة ، و التاريخ
عند كل دورة
من دورات الحضارة و الثقافة منها في شقيها المادي و المعنوي ، تطرح مختلف القيم التي تحملها جل الاجناس
الأدبية و الفنية و الفروع العلمية منها في مجرى الزمن و العصور اشكالات عدة : إنسانية بالمقام الاول و بيئية وزمنية او
تاريخية ( تين / Taine).
فإذا كان
الشعر منذ المذهب او المدرسة الكلاسيكية ، الأخلاقي؛ التقليدي هو الاتصال بين ما
يمكن ادراكه و ما لا يمكن ادراكه ، أين لعب فيه المؤشر " الكاتارسيزي Catharsi
" الارسطي مكونا تكفيريا تطهيريا اساسيا ، و كذا (القضاء و القدر ) بالمعنى
الاسطوري للكلمة البناء اللغوي العلمي في هندسة الهرم الشعري بما فيه بعده الدرامي
و الملحمي قاعدته الصلبة الغنائية السخرية وقمة راسه العدالة الشعرية الغامضة ،
حين يقصد بإعادة التوازن ما بين الإنسان و بيئته. منسجما و متناغما مع عناصر الكون
او الحياة : الماء - النار - الهواء - التراب
لذا لا غرو
ان جاءت مقولة " ستالين " : الأدباء عموما مهندسي الروح " ملح هذا
البيان !
ولطالما
اعتبر الشعر عند الاغريق مقرونا بالانسان الملهم او الماخوذ وكن مبدع الصور وفق
المفهوم البداية أين يتحول فيها السحر الشامل او الاعم ، أين تتداعى الحواس و
تتراسل الخواطر و اختلال الحواس ايضا بالكلمة : بمعنى لا يلهم دون أن يفقد وعيه.
حتى قال افلاطون في حق الشعر " الجنون السماوي " .
هذا الجنون
المقرون بالفوضى ، ليست الفوضى الخلاقة و لا بالفوضى المدمرة ؛ انما الفوضى النظام غير المرئي كما قال ارسطو.
الشاعر فيها
محور و مركز ثقل الخلق و الإبداع: وهو الساحر ، الرائي ، الجواب ، الهاتف ، الكاهن
، الملائكة، المقاتل او الجندي المحارب. وهو صانع رموز و إشارات و صور تسبق الكلمة
و الفكرة و الحلم . أعطى للرمز قوة سحرية تداني القوة الروحية للكلمة او ما
اصطلاحا عليه اسم " اللوغوس/ Logos
".
صحيح يبدأ
الشعر موهبة وينتهي نابغة.بمعنى بعد مرحلة الصور ، قد تأتي مرحلة الفكر و قد يصير
الشعر نقدا او فلسفة ، و قد يصير الحالم شاعرا ، ثم ناقدا ، ثم فيلسوفا. فالفلسفة
هي شعرا ، و الشاعر ايضا فيلسوفا ، و الفيلسوف هو شاعر سابق لاوانه ؛ اكتفى فيه
بالتعبير عن نفسه ليس بالاحلام و لا بالصور و انما بالافكار . تعهد الفكر من اضمن
الوسائل للتغلب عن الغم و الوحدة.
وكما يسبق
الحلم الصورة ؛ تسبق الصورة الفكرة ؛ كما تسبق الفكرة الفعل . بمعنى : كما يسبق
الشاعر الفيلسوف ، يسبق الفيلسوف المؤرخ ! بمعنى : كما يسبق الشعر الفلسفة تسبق
الفلسفة التاريخ!.
هذا التاريخ.
تصبح للانسان ان يرى عالما مختلفا ، او ان يرى العالم نفسه بصورة مختلفة. ان يكون
في الاخير فنانا مكافئا لنفسه او اي انسان آخر يهوى ان يكونه . ووسيلته الوحيدة في
صنع او خلق ( الصورة) ، او ( الفكرة) ليكون شاعرا او ناقدا او فيلسوفا.
واذا ما
اعتبرنا التاريخ هو حرية الإنسان حيال القيمتين الانسانيتين الخير و الشر . وسوف
تكون نهاية هذا التاريخ نهاية هذه الحرية. الحالة السابقة للتاريخ مرحلة الخلق
الالهي عند التكفيريين التطهيريين الاغارقة ، حين يلجا الشعر عموما و يعود باثر
رجعي او وفق تغذية راجعة إلى( الميثولوجيا) إلى الأسطورة، إلى ارثه حيث يستمد قوته
و سلطته الأدبية من جديد. من حيث الأسطورة " ميراث الفنون " كما يقول (
نيكولاس فريده). الاسطورة نفس جماعية لا فردية ، معين وزاد لا ينضب للافكار
المبدعة ، و للصور المبهجة ، و للمواضيع الممتعة ، و للاستعارات و للكنايات .
وعليه انها تهب كل امرئ شيئا ، لكنها لا تهب شيئا لاشباه المثقفين و لانصاف
المتعلمين. انها لا تهيء هدايا لامعة جاهزة للمتشاعرين ليخط عليها أسمائهم، بل
تشجع المواهب و من هم في طريق الإبداع و الخلق بينما باتجاهها شعرا بالمعنى المطلق
للكلمة - مختلف الفنون الزمكانية - وفلسفة
و تاريخا.
وكما يمكن (مؤارخة) الأسطورة يمكن احالة
الأسطورة إلى تاريخ ، بل إلى فلسفة كما هي في حالة (ثيوغونيا / Theogonia)
تاريخ أنساب الآلهة عند الشاعر الملحمي " هزيود ".
او هي كما
عند الشاعر الدرامي الكوميدي الملهاتي " ارستوفانز" ملهاة "
الضفادع" و هي نقد ادبي للتراجيديا الاغريقية أكثر منها كوميديا تكفيرية
تطهيرية عن طريق الكوميديا. لذا بعدها علماء النقد من أقدم الأصول التقنية في
الآداب العالمية.
يقول (
مالرو) : " لبناء حضارة يلزمنا تاريخ و الشبيه للتاريخ " .
الشبيه
للتاريخ : كل خرافات و أساطير، و معتقدات....وطبوع و اهازيج.....وفلكلور وحكايات
شعبية و غيرها.
كل حكاية
شعبية تحمل قصيدة مجمدة ؛ بل وعيا و فكرا مجمدا اذا ما مستهم عصا موسى. ليست وحده الشعر من يسري في دماء الناس و انما
ايضا الفلسفة على صعوبتها و التاريخ على حد نهايته.
لذا يعود
الفضل لفلاسفة الألمان القائمين القائلين بفلسفة الحياة : (شيلنج) الذي قال بفكرة
الحياة ، و (هيجل) الذي قال بصيرورة الحياة ، و (شوبنهور) الذي قال بارادة الحياة
.
لذا لم يك
غروا ان يخشى ( برتولد بريخت) ان تظل فلسفته رهينة الذهن حبيسة الدماغ .لهذا حاول
ان يجعلها تسري في كيان الإنسان ، وإن تتصل بعواطفه و مشاعره ، اوثق الاتصال ، وإن
تهز روح روحه من جذورها. أن اهم عاملين يقررا مصير الإنسان هو الظرف الاجتماعي و
كذا الفن الذي يعطي الحياة قيمتها.
اذن عموما لا
يمكن فصل الشعر كفن زماني عن الفلسفة كام العلوم ومحبة الحكمة ، و عن التاريخ
لبناء حضارة مادامت الأسطورة يلون الطبيعي
بما هو خارق للطبيعة، أدب استولدتها الاستعارة كميراث للفنون ، تماما كاحالة
التاريخ للاسطورة و احالة الأسطورة للتاريخ و الفلسفة عن طريق حجر الفلاسفة و
العديد من العقد الاغريقية التي هي بالمقام الاول تعالج مشاكل ذات طابع فكري سياسي
اقتصادي اجتماعي ثقافي أكثر مما تعالج الغرائز و العواطف حتى ان أراد( فريود)
يفسرها كذلك.
إذ لم يك
غروا و لا عجبا ان يتخذ ( بريخت) من فلسفته تحطيم الجدار الرابع ، و نقل كرسي (
القاضي) الشعري الفلسفي التاريخي للجمهور ، جاعلا من الجمهور معادلا لتحطيم قواعد
الفكر الكلاسيكي التقليدي الأخلاقي - في يوم واحد و في مكان واحد يتم فعل واحد
- مشاركا للفعل متفاعلا في التفكير و التغيير لا مجرد متفرجا سلبيا
يكتفي بالتطهير من انفعال ادران النفس.
صحيح بعد
اكتشاف عصر الذرة و الالكترون و الرقمية لم تعد الفلسفة ام العلوم ، لكنها صارت
تسري في اذهان الناس و في تصوراتهم العقلية بفعل التجريب و التجريد ايضا .وكذا
التاريخ حين صار الشعر يكتب من ذاكرة المستقبل.