الهاملتية و نظرية العوالم المتداخلة
العقيد بن دحو
تعود " الهاملتية" كحالة نفسية انفرادية إلى بطل مسرحية (هاملت)
للكاتب الانجليزي الرومانسي " وليام تشكسبير".
لقد قال النقاد الباحثون المهتمون
بالكاتب ومؤلفات الكاتب ان هاملت من أفضل الجواهر التمثيلية الحسان الفت و أبدعت
للانسان في كل مكان و في كل عصر ، لا يطويها زمان و لا نسيان.
اتخذت نموذجا و امثولة من الإنسان موضوعا و من العالم موضعا و من العصر و
الوقت زمنا.
ثم قالوا : لو كارثة - لا قدر الله - المت و ضربت المكتبات و احترقت كافة
الكتب و لم يبق الا ( هاملت) فما خسرت الإنسانية شيئا !.
بطبيعة الحال قراءتنا او دراستنا في هذا المجال او الحيز الدرامي الدراسي
العلمي البحث لا يخص المسرحية بحد ذاتها و لا مذهبها او مدرستها الرومانسية او طرق
اخراجها ، انما ما يخص بالبطل هاملت البطل الامير الدنمارك، و انما نفسية البطل و
وطبيعتها المعقدة ، و كذا ظهور الشبح ، و تلبسه او ادعائه مرض الجنون و كذا الصمت ، حتى ان قال في احدى المشاهد
قولته الشهيرة : " البقية صمت " !.
حين تتوقف لغة الكلمات و يصير ( الكلام) عاجزا عن لغة التخاطب او تبلغ من
خلاله رسالة الحوار. هذه الحالة بالضبط عندما يتخلى الكاتب وليام تشكسبير عن نصه ،
و يترك أحد شخوصه او ابطاله تكمل النص تأليفا و أداءا و اخراجا و جمهورا ؛ حلما و
كلمة ، و فكرة ، و فعلا ! لفظا و لحظا و
اشارة ! خيالا وحرية و عاطفة !. حتى لا
اقول تكفيرا و تطهيرا على مذهب ارسطو الكلاسيكي التقليدي الأخلاقي، و لا على
المذهب الملحمي التجريبي البريختي
التفكيري التغييري......!.
كل هذا يصب في قالب محبب إلى الأنفس له وقعه على القلوب الصادمة ان مسته
عصا موسى ، تسمى لغة و اصطلاحا و فيلولوجيا اي فقه اللغة " الهاملتية "
.
و لان الأسماء و الطباع قلما لا تتفق ، و لو انه أمير كان من المفروض ان
يتصف بكثير من الحنكة و الصبر و الدبلوماسية و التعقل. الا ان بلغ به الانتقام الى
ما يجعله يرى نفسه ، فنجده تارة يدعي الجنون و تارة اخرى يلجا إلى(الصمت) ؛ و تارة اخرى مخاطبا الشبح.
و كان كان لا بد أن يكمل هاملت ما بداه مؤلفه تشكسبير ، و ان يلجا إلى حيلة
اخرى من حيل الأمراء ممزوجة بحيل المبدعين لو ان صح القول بلعبة من الاعيبهم ؛
مادام المسرح لعبة درامية نبيلة فنية عميقة الجذور ، القصد منها إعادة التوازن ما
بين الفنان و الطبيعة و بل بين الإنسان و المحيط العام. غير انها كانت في مجملها
فوضى ما بعدها فوضى مدمرة للانفس قبل أن تدمر الأبدان او المحيط.
التجا الكاتب الفنان وليام تشكسبير من خلال بطله هاملت إلى المسرح داخل
المسرح !.
كان يلجا بالاستعانة ببعض الممثلين للتأكد من الشبح ، هل هو حقا شبح والده
المغدور المقتول، التي ضفرت به زوجته والدته مع عشيقها عمه و قتلاه! ؟
و لما تأكد له ذلك انتقم لمقتل والده من والدته و من عشيقها عمه و من
معاونيهما و من ساعدهما في اطفاء شموع الفرح و السعادة داخل القصر !
كان لا بد لهذه الهاملتية ان تواصل أقصى انواع التدمير الهائل حينما يلجا
الكاتب المؤلف المبدع إلى المسرح داخل المسرح.
إلى مسرحية هاملت العنوان الكبير ؛ ليضمنه في احدى الفصول مسرحية اخرى (
الشبح) او سميها كما شئت ، مادام جميع الاحداث تخدم الأثر الذي يخلفه الحدث و ما
بعد الحدث. على ان تكون مخرجات المسرحية ككل تخدم الفعل و البناء الرومانسي الاعم
او الشامل الذي بداه وليام تشكسبير مع الاشباح و السحرة و اعاجيب الغيب ، و حتى
الصمت و الجنون.
الجنون تلك الإضافة( الملح) الذي يحمي عقل الامير الدنماركي هاملت من
الفساد !.
و يجعل سيفه البتار على رقاب الأخضر و اليابس ، او على رقاب المجرم و البرئ!
هذه الحادثة الأليم المجنونة تشبه كثيرا بالبطل الدرامي اليوناني الكلاسيكي
للشاعر الدرامي التراجيدي صوفوكل او صوفوكليس. يوم انحى بطله ( اياس) بسيفه الرجيم
المجنون على ثيرة و ماشية اليونان دبحا و تقتيلا حتى الجنون .
كانت هذه الفكرة تقودنا إلى فكرة اخرى إلى نظرية ( العوالم المتداخلة) هي :
ان الوهمي الذهني يعتمد مسلمة أساسية؛ تعقد العوالم و تعدد الألوان التي يتداول
الواحد منها في الاخر. و لا توجد حقيقة من حيث هي حقيقة بل كمدخل لحقيقة اخرى
ممكنة. فالحقيقة الأولية ليست الا العالم كما يراه فقير هندي ؛ ولكن هذا الفقير
نفسه لا يوجد الا في فكر فقير و هكذا...مثله مثل صور الدعاية الإعلانية حيث يحمل
أحد مدمني الخمر في يده مثل اللصيقة عليها مدمنا آخر يحمل في يده زجاجة خمر و
هكذا....!.
تلك هي نظرية العوالم المتداخلة التي جعلنا كلا من تشكسبير و هاملت نعيشها
معهما.
بمعنى هذا العالم ، الذي نعيشه منذ
نشاة الخليقة و إلى اليوم ؛ بل يزداد تعقيدا .
فكل كوننا هذا قد يكون قطرة دم في جسم برغوث جبار يعيش في كون ليس إلا قطرة
دم في جسم برغوث آخر......
ان مثل هذا الفكر يلجا اليه الكاتب او لمؤلف المبدع تشكسبير ليميز بين ما
هو وهمي و ما هو عجيب.
و كان تشكسبير كان يعلم او يستشرف انه ياتي على الناس زمنا لا هو بعالم واحد و لا المتجانس ، كما لم تعد
تسكنه الآلهة و لا الاشباح و لا صور الجنيات، لا القضاء و القدر ، و لا العواطف
الجياشة كبديل، انما عالم ينتمي إلى سلسلة من العوالم يتداخل الواحد منها الاخر.
هكذا اخبرنا تشكسبير عن طريق اميره الدنماركي هاملت ان عالمنا ، و عالم
الجريمة سلسلة تكاد لا تنتهي ، فكل واحدة تنتمي إلى دائرة داخل دائرة داخل دائرة
اخرى متحدة المركز ، سواء داخل البيت الواحد ، القصر الواحد ، البلد الواحد ،
العالم المعولم واحد.
فالجريمة لا تفيد في جميع المدارس و المذاهب الإنسانية الفنية ، الخطأ خطيئة بشرية يمكن التقليل منها لكن لا
يمكن القضاء عليها.
وهكذا ( المؤلفين) معا ؛ المبدعين معا تشكسبير و عن طريق بطله هاملت جعلنا
نقف أمام أعظم مرأة ليرينا أنفسنا من الداخل مجردين من بهرجة وزخرف و تورية الخارج
، لا لنكتفي بالخجل و نتوارى خلف عرينا و انما لتهتز مشاعرنا ، و يجعلنا نتحكم
فيها لا ان تتحكم فينا و تدمرنا عن طريق الكبد التقسي من الداخل و عن الطريق
الفوضى الخلاقة و غير الخلاقة من الخارج.
يضعها المؤلف عن طريق مرهم او عقار او بلسم او حقن اوردة مصل "
الهاملتية" كمعالجة سيكولوجية ان نعي ما نفعل و نقيم و نقوم سلوكاتنا و
نخضعها إلى الصمت الحكمة و التعقل اذا ما تعالت اصوات الغضب و العيش و البغض و
الحقد و الانتقام.
الإنسان سيد تقرير هصيره لا هي بالقضاء و القدر الاثيني و العواطف الجياشة
التي لا مرد لها.
احيانا على المرء أن يضع نفسه على ركح المحاسبة ، و ان ينقل كرسيه إلى
كرسي القاضي، المتفرجين المتاملين المراقبين ، ليس السلبيين
و انما الباخرة عن الحلول المادية.
ثم عليه ان يعي ان عالما الموحد هذا لم يعد يكفي للعيش او إلى فنيات الحياة
فهو يعيش عدة حيوات و عدة عوالم اخرى من عالم البسيطة إلى العالم الأزرق الافتراضي
إلى عدة عوالم اخرى الى ما بعد هذا العالم.
و البقية صمت.... .!