حين ينتقل كرسي القاضي إلى كرسي الجمهور
العقيد بن دحو
- * " صوت الشعب من صوت الاله - Veix populei ex veix dei " (يانك) .
كثيرة هي تلك الامسيات و السهرات و الاحتفالات و كذا المقابلات الفنية و
الرياضية ، و الاعياد و المناسباتت ابدينية و الدنيوية التي تجرى بالقاعات الكبرى
و الملاعب الرياضية او حتى الفضاءات العامة تغص بالجمهور؛ ان لم نقل بالجماهير.
هذا الجمهور لم يعد متفرجا سلبيا على الاحداث ؛ يبدو انه بدأ حياته
هكذا.... لكن التطور الثقافي و الحضاري الكلاسيكي و الرقمي جعل من الجمهور فاعلا
متفاعلا شريكا في الحدث ؛ و الأثر الذي يخلفه الحدث و ما بعد الحدث. بل صار صانع
محتوى ، لم يعد ينتظر ما يمليه عليه الإعلام الموجه المتاخر قي بث الخبر
الماضي مقدسا وواجبا ، بل صارت كل اشارة
فيه او حركة ادبية. صورة او كلمة بثا حيا و على المباشر.
ولأن نفس الأسباب حتما تؤدي إلى نفس النتائج الحتمية ، لما العجب ان اتخذ
الجمهور زمام تقرير مصيره ؛ قضاء وقدره !؟ ،
صفر عن هذا ، و صرخ في وجه ذاك ، و
هتف باسم ذاك ، و صفق على فلان و احتج بالهمهمة و بتلكؤ المفردات و تلعثم
الإشارات، باللجلجة و العظمة على علان.
لقد أصبح الجمهور غرامشيا يا عالم ، كل شيئ تغير في الجزائر الحجر و الشجر
و البشر ، من يوم ان اطرقت منصات شبكات التواصل الاجتماعي قضاء وقدر عتبات
ابوابه حتى ان كان في بروج مشيدة.
لقد صار اخيرا الجمهور فنانا و معلما و مبدعا !
بل كف عن مجاراة التاريخ ؛ و صار يرى ما يراه الرسام بالألوان و النحاث
بالحجوم ، و رجل الإعلام بالانطباعات المعاشة. وكذا رجل السياسة وفق منظور كل شيئ
ممكن ، و الاقتصادي وفق الاقتصاد نصف المعيشة و الانسان راس المال ، و الاجتماعي و
عي المجتمع الحلمي ، و المثقف و فق رؤية إعادة التوازن بين الإنسان و المحيط ، و
الاديب وفق تحسين العالم.
لقد صار له لافتات و لوحات اعلانية ، و اغانيه و اشعاره و شعارات!.
العالم تغير يا ناس ، و الجمهور لم يعد يعيش في علب ماساة ( الكترا) او مع
أبطال يونسكو الخراتيت.
ولعل الكاتب المؤلف الدرامي الألماني( برتولد بريخت) الطبيب الملحمي
التجريبي اول من شعر بهذا التحول و الانتقال في فكر الجمهور حتى قبل أن تكتشف
وسائل الاتصال الحديثة و الهواتف الذكية.
جسدها في فكرة تحت مسمى ( الاغراب).
لقد انتقل كرسي القاضي إلى كرسي المتفرج ؛ اين نزع القاضي جبته القضائية و
تخلى من مطرقته و صولجان-هرمس ميزانه ، و لبس قميص الرقم 24 !. المتفرج الإيجابي.
لقد تحولت قاعات الاحتفالات و الامسيات و مدرجات الملاعب إلى قاعات محاكم . حيث
يتعلم الناس كيف يصدرون تقارير الاحكام . الأحكام ؛ تثنية الفعل ورد الفعل ؛ اذ لم
يعد بالباكي على الأطلال او بالمهرج الحكواتي المضحك- لا يجعل الناس يضحكون على من
وقع عليه الضحك ؛ انما حين كان هو نفسه الاضحوكة المثلى النبيلة ، التي كانت تسند
إلى جمهور ابله قديما!.
وحتى الضحك اليوم يختلف عن ضحك جمهور مؤدلج ( الايديولوجية) .
" إذا وجدت اليوم الشيئ مضحكا فابحث عن الحقيقة المختفية ؛ بل كل نكتة
مخلصة تحمل حقيقة في رحم الزمن " . او كما قال ( برنادشو).
جمهور لم يعد يكتفي بالتطهير و التكفير الارسطي ؛ الساعي وراء التنفيس او
الفرجة السلبية او الترفيه ؛ او التخفيف من حجم
ضغط ثقل ساعات يومية ارقته. او التطهير من ادران انفعالات النفس . بل صار
يسعى وراء حمل المشاعر على اتخاذ قرارات ، بعد ان تعرى الواقع امامه وراه على
حقيقته ؛ كما هو في ذاته و كما يجب أن يكون !.
وبهذا التطور الشبه الدرامي الماسوي التراجيدي الكوميدي و المشجاة في ان
واحد. جعلت من الجمهور ان يندمج فيها لا متفاعلا معها. ويدرسها بعد ان كان يعيشها
، و يحكم عليها بعد ان كان ينفعل بها.
صار الجمهور المتفرج على الاحداث الفنية او الر ياضية ضمير الشعب ، متحدثا
باسمه ، بعد ان غويبت المجالس و هومشت في تسيير المرافق المحلية او الوطنية او
عجزت ان تكون لسان الشعب و ضمير الأمة، بعد ان اغتربت كحقيقة و صارت اكبر اكذوبة
عرفها التاريخ او كما قالت نظرية الاغتراب في المجتمع. صار بمثابة الصديق و الرفيق
و معلما و تلميذا و مستشارا من أراد استشارة. وصدق المثل الشعبي القائل : "
ان لم تجد من تستشيره استشر حائط قديم " . كما صدق بريخت نفسه حين سمى
الجمهور بالجدار الرابع !.
وها نحن اليوم أمام هذا الحائط الموغل في العقلاتية ، و كما يعرف ما يفعل
يعرف ما يقول ، فهو الان سيد وملح الملاعب ، بل هو الحقيقة الصادمة اليوم ؟ وليعش
من يريد أن يعيش مع الخرافات و الاساطير الوهمية،
ليتها كانت اغريقية او رومانية جاءت في شكل عقد او نصوص درامية . يستفيد
منها الدارسين و الباحثين الاكادميين و من تستهويهم الميثولوجية.
لقد أصبح (الجمهور) ضليعا في اخبار القضاء و المتقاضي ، و صار يصدر تقاريره
القضائية و احكامه القضائية من وعيه الجمعي علنية .
حتى ان كانت هذه الاصدارات تتلى على الملاعب بمدرجات الملاعب او القاعات
الكبرى الفنية او الرياضية او اي تجمعات شعبية اخرى....
لقد انتقل كل ما يميز القضاء من مجالس و قضاة و نواب و محامين و محلفين إلى
المدرجات و إلى كراسي الجمهور و صاروا يصدرون احكامهم الخلاقة دون اطراح اي حياء
صحيح نعلم إذا ما اعجب الواحد منا بنص مقروء ؛ او بمشهد مسرحية او فيلم او
لوحة فنية او منحوثة ذاك مرده ان الفنان الذي ابدع هذه التحفة حقق ما يسمى (
بالعدالة الشعرية) ، أين يتم الاتفاق ضمنيا بين المبدع و القارئ . وهذا ما حدث في ملاعبنا و في ملاعب العالم ، عندما
يحدث خللا في الاتزان يمس الحق العام او يمس البيئة او يمس الوطن او يمس الأخلاق
العامة ، في مجرى الزمن و في مجرى التاريخ كان الجمهور ينصب خيمته القضائية
المتنقلة و يصدر احكامه القضائية ، انصافا للحق و للعدالة و حتى تسود العدالة ، و
من حيث العدل اساس الملك.
قد يلوم البعض ولو على منصات شبكات التواصل الاجتماعي على تصفيرات الجمهور
؛ تماما كمل يلوم القاضي على احكامه ضد متهم ما اساء لشخص اخر و للحق العام . هذا
تقصير في وجهات النظر وشواش رؤى ورؤية ، انها احكامه قام بها الشعب بنفسه دون ناطق
رسمي ، فالخطا خطا لا يمكن أن يكون صوابا.
أصيل بالذات البشرية يمكن التقليل منه لكن لا يمكن القضاء عليه.
راي الجماعة لا تشقى البلاد به *** رغم الخلافة وراي الفرد يشقيها . او كما
قال الشاعر.
او كما قالت الاغريق القديمة او الاغارقة القدامى : " صوت الشعب من
صوت الاله " !.
وها الجماهير تسترد صوتها المفقود و تقول كلمتها في حق الفرد كما هو في حق
الجماعة حتى ولو كانت به خصاصة.
ان المحاكمات شبه يومية قائمة بالمقاهي ، بالقاعات ، بمدرجات الملاعب ،
بالاسواق و الأماكن العامة و أين ما تواجدت الجماهير في فرح او قرح الا صدرت
احكامها، و يبقى التنفيذ متوقفا على استيقاظ الضمير شرطي الاعماق من يقوم المذنب
بالقبض على نفسه ؛ و اقل شيئ يعتذر للشعب كحق عام !.
من حيث القوانين المشرعة لا ينبغي ان تكون مناهضة للعدالة كما جاءت بها جل
المدارس و المذاهب الأدبية و الفنية.