عندما ينقل كرسي القاضي إلى كرسي الجمهور
العقيد بن دحو
عموما الفن كالسياسة ؛ كل شيئ ممكن ؛ كل القيم التي شهدتها الإنسانية
بامكانه ان تصير فنا زمكانيا ان وجدت العين البصيرة ، و سرعة البديهة ، و اليد
الظاهرة الساحرة الأسرة؛ ووظفت سائر الحواس لفظا و لحظا و اشارة بشكل سليم في
التقاط مشهد معين في بيئة معينة في لحظة ما واحالته إلى اثر نفي اللحظة لا يطاله
زمن يضاف فيه الإنسان إلى الطبيعة.
لعب (الكرسي) في مجرى التاريخ مجازا و استعارة عن الحكم او الوصول اليه.
كما قامت حوله عدة طقوس ، إلى أن صار مطلب العام و الخاص ، الافراد و الجماعات ،
حلم الفرد كما هو حلم الجماعة حتى اوشك ان يصير خرافة او اسطورة.
فإذا كانت بدورها الأسطورة نفس جماعية لا فردية ؛ فالكرسي بدوره اتخذ عدة
دلالات وتعددت المسميات و الكرسي واحد.
فكما صرنا نسمع عن الكرسي المتحرك الاكلينيكي ، الكرسي البيداغوجي ،
الأستاذ الكرسي ، كرسي البرلمان ، كرسي الحكم ، ووصولا إلى كرسي القاضي و كرسي
الجمهور .
إلى أن جاء المفكر العالمي في مسرح اللامعقول ؛ المفكر الدرامي الكاتب
الامريكي ( يونسكو يوجين) في مسرحيته العالمية الشهيرة (الكرسي) ، حين أعطى معنى
آخر للكرسي غير كرسي الاعتراف بالذنب
، كرسي كشف الكذب ، كرسي الإعدام.
جميع هذه الوظائف قد يقوم بها كرسي واحد ، مهما كان مريحا مخمليا ، يدور
حول محور دائري إذا ما دارت الأحوال و تقلب العصر ،!.
حينئذ يصير الكرسي سياسة لا عداوة له دائمة و لا صداقة دائمة ؛ وفي لنفسه فقط.
الكاتب الدرامي العالمي (يونسكو يوجين) اتخذ من ( الكراسي) عنوانا لمسرحيته
في يوم افتتاح المسرح العالمي.
لم يعد الكرسي يعبر عن الوظيفة و انما انتقل الى التعبير عن القيم كاللغة و
العرق و الدين .
يعتبر ( يونسكو يوجين) كأول من أعطى معنى جديد للكراسي؛ غير تلك النمطية
الساذجة ؛ سذاجة البداية التي تطلعنا بها يوميا وسائل الإعلام الخفيفة و الثقيلة ؛
و كذا رجالات السياسة.الكراسي لغة معطوبة ؛ عاجزة عن الاتصال و التواصل بين بني
البشر.
جسدها في مسرحيته الشهيرة (الكراسي) بطلاها عجوزان ؛ زوجان ؛ يعيشان في قلعة مهجورة بجزيرة نائية.
لانهما لا يعرفان كيف يتصلان بافراد المجتمع. فاللغة عقبة في طريقهما كراسي ، في
عرض الطريق....أنهما وحدهما و لا يربط بينهما سوى الظلام و القتامة و العزلة و
الاغتراب. لذلك يكتفي العجوز مخاطبة زوجته بلغة يتوهمانها يتفاهمان بها.
ان البطل يقف وحده وسط الكراسي الفارغة ، و اللغة التي يستخدمها ليست الا
كلمات فارغة ، و زوجته التي يخاطبها ليست أكثر من رجع صداه ، اما الجمهور الذي
ينتظره ليس اكثر من مجرد أشباح. انه عالم فارغ او عالم ملئ بالفراغ.عالم يتم فيه
اكبر عملية (تفريغ). تفريغ لكل شيئ ، تفريغ للكراسي ، تفريغ للالفاظ، و تفريغ
للناس أجمعين!.
غير ان رفض المفكر والكاتب الدرامي الالماني (برتولد بريخت) ان يظل كرسيه
كرسيا كباقي الكراسي من خشب وجديد وجلد وقاعدة تدور حول ساق معدنية او محور معدني
بعجلات أين ما دار يدور الجالس، و أين ما دارت الاحوال يدور ! أين يصير الكرسي ومن
يجلس عليه يشكل جملة مادية واحدة : كتلة ، مساحة، حجما ، لونا ، وضوءا .
يمسحان-بأيدي-بعضهم نفس المسافة الدوران ، يستغرقان نفس الوقت و نفس السرعة.
رفض برتولد بريخت ؛ سليل كبار سلالة الفلاسفة الالمان الذين قالوا بفلسفات
الحياة :"شلنج" الذي قال بفكرة الحياة ، "هيجل" الذي قال
بصيرورة الحياة ، و " شوبنهور" الذي قال بارادة الحياة.
غير ان بريخت يغار على فلسفته ، يخاف عليها ان تظل رهينة الاذهان حبيسة
الادمغة. لهذا حاول جاهدا طيلة حياتيه :
الفيزيولوجية الطبيعية البشرية و الأدبية الفنية الثقافية ان يجعل فلسفته و
تصوراته الفلسفية تسري بين الناس ، في كيان الانسان و انسنة الانسان ، و ان يتصل و
يتواصل بعواطفه و مشاعره اوثق الاتصال تهز كيانه. و تبعثه على التأمل، كما تدفعه
نحو القابلية للتجريب ؛ للتفكير ؛ و للتغيير.
يضع بريخت القاضي في موقف حرج ، كما يجبرها على ان يتخذ قرارات صعبة ، او
يبطل تلك الاحكام المؤجلة التي تدوم سنين طوال بادراج ( التاجيل) اوابطالها
بالتقادم او العفو الأعلى من لدن القاضي الاول للضرورة الشعرية كما هو جاري للضرورتين الاجتماعية و السياسية !.
ليس القاضي هنا سوى الجمهور نفسه ، المتفرج نفسه ؛ جمهور النظارة.
ضمن هذه العملية تتم فيها عملية اخرى اكثر
شاعرية و أكثر نبلا و أكثر دفيئة. كلمة و معنى وحياة ؛ ان ينقل فيها كرسي
القاضي إلى كرسي الجمهور ؛ إلى كرسي المتفرج. كان يحول ركح المسرح إلى قاعة
مداولات الحكم بالمحكمة. أين يتعلم الناس كيف - متى- أين- كيف : يتقاضون امورهم
الحياتية فيما بينهم بعدل و قسطاس ، ان يعلم الناس كيف يصدرون الأحكام، كيف
يدافعون او يرافعون على انفسهم او على بعضهم بعضا...ان يقوم القاضي بالتقاضي
واصدار الحكم ، و انما يعلم الناس فقه القضاء و ثقافة القضاء لا ظالم و لا مظلوم و
الهدف من حياة العدل.
الكرسي ؛ كرسي القضاء الذي نقل إلى
الجمهور ؛ لابد بالنهاية ان يحمل العكس ؛ الجمهور إلى قاعة العدالة . ان يتابع
الجمهور الصراع بين الاحكام العقلية و الثقيلة المنطقة و الكشف الواعي عما هو
زائفة بالعالم.
أين يصير للجمهور (حوارا) ما.... و (موقفا) ما......موقفه من النهر ان ينظم
مجرى النهر... وموقفه من الحركات المتصلة ان ببني العربات ، يشيد القطارات ،
الطرقات ، الجسور، يصنع الطائرات ، يشق الطرقات و يفتح افقا للامل....موقفه من
شجرة الفاكهة ان يقلم شجرة الفاكهة... وموقفه من الحياة و المجتمع ان يتعلم فن
العيش و ان يهز المجتمع من جذوره.
اذن يعود الفضل للفن ان أعطى ابعادا إنسانية( للكرسي) فمن القيم اللغة و
الأسلوب إلى أن صار كرسي القاضي هو نفسه كرسي الجمهور.... وهكذا حقا و حقيقة يتأكد
لنا أن القاضي يقاضي الناس باسم الشعب ، و عندما يقاضي الشعب باسم القضاء.
في الاخير إليكم هذه الطرفة الاسطورية :
انفرد الإله( زيوس) سيد النظام بالسلطة ، لكن شعر بثقلها لدى شارك بعض من
أفراد عائلته في الحكم ، واقترب من حياة البشر ، تزوج من الآلهة( تيميس) فولدت له
( يونوميا) الهة الحكم الصالح التي حملت إلى العالم العدل و السلام.
اتساءل بدوري كم من قاضي اليوم يعرف هذا الكلام ، بل وكم من جمهور بعد ان
مكن التطور الثقافي و الحضاري الامم و الشعوب :
ان الفن و الأدب و الفكر صار قانونا وعدالة و الاسطورة ميراث الفنون !؟
والبقية صمت سيداتي اوانس سادتي القضاة المتقاضين ........!.