صورة أخرى لأُمّى"
من مجموعتي القصصية :
"تحولات أخري للخروج"
..................
قصة,صلاح هلال الحنفي
1- لحظةُ وجود
بعد صُراخٍ طويلٍ من جميعِ البشرِ خارج وتحت الأنقاضِ لا يسمعُه إلا أنينُ الحجارةِ حتي الهواتفُ النقالةُ أصبحت صماءَ مثلها
تحاول امرأةٌ محشورةٌ تُحرِّك نفسَها فيزدادُ أنينُها معهم ،
الغُبارُ لا يرحم ، يسرحُ في عتمةِ الليلِ بين الأحجارِ يخترقُها بِصقيع ..كوَّرت نفسَها تحت انقاضهِ ، تبحثُ بعينَيها عن أولادِها وعن طفلتِها الصُّغرى وجدتهُم بين شِقَّيْنِ كالَّلحدِ في الرُّكامِ
تسمعُ أنينَهم ...تقاوم... تجاهدُ نفسَها يعلو صراخُها: -اصبروا
اصبروا، سيجعلُ اللهُ لنا مخرَجا. تارةً تتحسَّسُ بطنَها ،يلاعبُها جنينُها
تسألُ نفسَها ،وهو يتقلُّبُ في جنباتِ رَحِمها
كنتُ أنتظرُك ياوليدي ، وجودُك فرحتي. فرحةُ إخوتك البنات والجدَّة والغِربال ، أرَي رحمي لك سكينةً وهدوء
إنُّه أرحبُ من هذهِ الحياةِ الآن .
يحاورُها الجنين
أريدُ أن أحيا بين الحياةِ لأرَى وجهَكِ يا أُمَّاه
أرجوكَ انتظِر لامكان لك هنا الآن .
الجنينُ يسألُ
لماذا ياأمَّاه ؟
اصبر ياحبيبي.
-أشُمُّ رائحةً غريبةً تخنُقُ أنفاسى
- ألفُ سلامةٍ عليك ياضنياي ... أنت حُلمي.. وآمالي.
...ُاصبِر .رُبَّما يجعلَ الله لنا مخرَجا.
. صرخَتْ صرخاتٍ مُستمِّرة ... تحتضنُ الحجارةَ الصماءَ .. تُواسيها... تبكي معها ... تساعدُها ...
تعقُبها صرخةُ حياةٍ جديدة....
فاحتضنته الحجارة ..ابتسَمت لَهُ
ببنما وقفَتْ عيناها لاترمِشان علي وليدِها تبتسمُ لَهُ وتضحكُ ضحكاتٍ مُستمِّرة ........
يعقُبها صمتٌ طويلٌ لا ينتهي....
2- رائحةُ وُجود
رجعتُ إلي ميلادي بعد أن أخبَرَتني أُمِّي التي ربَّتني في كنَفِها ، والتي دائماً ماتقول:‐ أنتَ أوَّلُ فرحَتي وآخِرُها وابني الوحيدُ في الوُجود ، أعطتني كلَّ حنانِ الأُمومةِ.. كلما ناديتُها يا أُمِّي أري نورَ وجهِها يزغردُ في عينينا ، ترفعُني مِن علي
الأرضِ وحتي لما كبرت .
هذا النورُ أعطاني نورَ الحياةِ من علومِها و كرامةٍ في مجتمعٍ أصبحتُ فيه جزءاً منه
لمّاعرَفتُ السببَ في و
جُودى في حُضنِها
حكَت لي عن أهلي .. .وترجَّتني ألا اترُكها .
.. تركتُ جدرانَ بيتي الدافئ ، بحثاً عن عائلتي.. عن أُمِّي.. عن رائحتِهما من بين أنقاضِ بيتِنا
تمنَّيتُ أن أري وجهَهم
سألتُ كثيراً عن عائلتي
أري منهم صمتاً . هل خوفاً علىًّ؟
تأتي على مسامِعي أقاويلُ أخري كثيرة
مَن قال : -هُنا دُفِنُوا ..ومَن قال:
هناك ناموا مع الأَجداد
أمشى في عَتمةِ الليلِ أري وجوهَ تُتابعني ..تسألني .أين أنت ذاهب في هذا الوقت
يابُنَيّ ؟!
كلما اقتربتُ ،يضايقُني نورٌ أصفرَ أتاني من لمبةٍ مُعلَّقةٍ بفروعِ شجرةٍ عتيقة .. وعلي الفَورِ أخرجتُ هاتفي ومشيتُ علي نورِ كشَّافِه ... تقابلُني شواهدُ تاريخ أجدادي.
جسمي يعتريه الخوفُ والرَّهبة،
أواصلُ شريطَ الذكرياتِ هل أشبهُ أمِّي؟
أبي ؟ أمِ الإثنَين ؟.
من بينِ الصَّمت ؛ يتملَّكني الفزعُ والخوف ... اتلو سورةَ "الإخلاص": أشعرُ براحةٍ وطُمأنينة
وقفتُ أُعِيدُ سورةَ "الإخلاص"
وجدتُ في مُخَيِّلَتي أنواراً كالبرقِ في سماءِ عقلي ترسمُ وجهَ أُمِّي تجذبُني
بقُوَّةٍ ..ارتعشَت مفاصلي
صدي صوت:-
"لاتخَفْ... نحن هنا"
لم أرَ شاهداً لعائلتي.
فأصبحتُ شاهدا ..
سامِحيني لم أعرفْ مكانَك إلّا بالأمس جئتُ إليكِ وتُسابقُني أنفاسي عبرَ الطُرُقِ ياأمّاه؛
أحسستُ أنِّي طفلٌ رضيعٌ .. احتضَنتني بين ضلوعِها …بحثتُ عن ثَديِها ، التقمْتُه وهي تمسحُ بكَفَّيها دموعي المُنهمِلة علي وجهي
وحنينُ صوتِها يُهدِّئ من رَوعى
_أصبحتَ رجُلاً ياوليد .
.فرحتُ وهي تناديني باسمي.
أفزعني مواءُ قِطَّةٍ تتحوّلُ لألوانٍ مـختلفة
يزدادُ حجمُها ويكبُر ثم تصغر تصغر حتي عادت إلي سيرتِها الأُولي
عاد الصمت .....
أراها مرَّةً أُخري
تجري وتدخلُ بين فتحاتِ أبوابٍ مُغلَقة،
كأنّها تجري في عِبِّي، وجسمي يرتعش... عندما رأيتُها تحت إحداهما تفترش دماً .
أيقنت أنَّ الأرضَ ترتعشُ بي وأدورُ مع هزَّاتِها كأنُّه دُوَّارُ بحر
من الجانب الأخر اخترقَ أُذُني صوتٌ أُحِبٌُه يُزلزلُني عشتُ معه يشقُّ الظلمةَ مع أذانِ الفجرِ كصوتِ أُمِّي
لا تخَف ياوليد .....لاتخَف
صرتُ تجاهَ الصَّوت....
تمت