الفينومينولوجيا "
في قصة"صورة أخري
لأُمي"
------------------------------------
الاديب : صلاح هلال الحنفي(ميت غمر_مصر)
رؤية نقدية : حامد حبيب _مصر
هناك أدبٌ يتخلَّقُ في رحِم
الكوارث ، وربما
الكوارثُ الأخيرةُ التي تمرُّ ببعضِ الدول ، مثل
وباء كورونا ثم الزلازل اليوم أوحَت إلي بعضِ
الأدباءِ_نتيجة التأثر العاطفي مع المنكوبين _
بانتاجٍ جديدٍ لما ألمَّ
بالبشريةِ من كوارث
وفواجع. وهذا ليس بجديد علي
كلِّ أديبٍ
أو فنّان ،فتلك النوعيةُ أسرعُ تأثُّراً بها ، وأشدّ
انفعالاً معها، وأقدرُ علي ترجمةِ
آثارِها علي
البشرية .
علي أننا يجب
_أولاً _أن نُفرِّقَ بين الكارثة
والفاجعة في معرض
حديثنا عن القصة،
للتوضيح.
_فالكارثة disaster/désastre وجمعها كوارث ، هى : النازلةُ
العظيمةُ والشدة ،
وتتسبَّب في
خسائرَ بشريّة واقتصادية وبيئية
واسعة النطاق،
تتجاوزُ قدرةَ المجتمع في التغلُّبِ عليها ، وتخلفُ وراءها آلاماً عامّة.
_ والفاجعة ، أو الفجيعة Catastrophe :
هي المصيبة المؤلمة التي توجِع الإنسان
بفقد مايعزّ
عليه من أهلٍ أومال.
وهي وان كانت تقترب في التعريف من الكارثة،الا أنَّ الفاجعةَ "تترك كلَّ شئٍ وتُبقيه قائماّ ذا وجود
في الحياة والذاكرة …"
وكأنَّ الفاجعةَ هي
الأثر المتبقي عن الكارثة ، وهو
مااشارت إليه القصةُ
حين أعاد الكاتبُ إنتاجها في
فَترتَين متباعدتَين،
مثّلت الأولي (لحظة وجود)
الشطر الأول منها ..
وهي لحظة ميلاد الطفل (وليد) الذي
وُلِد تحت الأنقاض ،فُحرِمَت أمه
من رؤياه،وحُرِم من رؤياه ، فى لحظةٍ مؤثِّرة
بين "صراخ.. لايسمعه إلاّ أنينُ الحجارة". وبما أن أمَّه شعرت
بخطورةِ ولادتِه بين الأنقاض، وأنها هي
الأخري لامحالةَ راحلة ، كانت تتمني أن يبقي في رحمِها ، فهو أأمن من الأنقاض
التي تنتظره،فتقول:"أري رحِمي
لك سكينةً وهدوء
…إنه أرحبُ من هُوَّةِ الحياة الآن…"
"يجاورها الجنين.. أريدُ
أن أحيا بين الحياة ِ لاري
وجهكِ ياأُمّاه".."أرجوك أنتظر..لامكان لك هنا
الآن
….فاحتضنته الحجارة ".
كانت لحظة مؤثرة انتهت ب"صمتٍ طويلٍ لاينتهي" إلا وهو الموت.
وبما أنّ الفاجعةَ أكثرُ
التصاقاً بالانسانِ الفرد ، وبما
يشعر به من
جرّاءِ الفقد ، فقد
جاء نصُّ الكاتب لوصف تلك الفاجعة
التي كانت من نصيب (وليد)
الذي أتي إلي
الدنيا من رحِم أمه إلي رحِم كارثة
ليولَد من جديد
لحظة انقاذه ، ليتحمّل
الفاجعة
وحده،والتي تبقي آثارها عليه وتُعيدُه
الكارثة إليها بعدما يكبُر ليعيش أجواءَها بعد حينٍ من الزمن.
وقد استطاع الكاتب
الكشف عن المواقف
إبان الفاجعة وإزائها ،من خلال فلسفة الظواهر ، أو علم
استحضار الصُّوَر وهو مايُسمَّى ب"الفينومينولوجيا
Phenomenology/Phénoménologie
بتحليل ابعاد التجربة وآثارها علي الطفل
الذي كبر
ليستعيد الصورة من جديد،كأنه رآها لحظة وقوعها.
فبعد مرور الزمن: في الشطر الثاني من القصة
"رائحة الوجود":
"رجعتُ إلي ميلادي .. تركتُ جدرانَ بيتي الدافئ
بحثاً عن عائلتي .. عن امي ..
عن رائحتمها من
بين انقاضِ بيتِنا…تمنّيتُ إن اري وجهَهم"
"صدى صوت : لاتخَف..نحنُ هنا"
" أحسستُ أنِّي طفلٌ
رضيع .... احتضَنتني بين ضلوعها
..بحثتُ عن ثديها..التقمتُه ، وهي تمسحُ
بكفَّيها دموعي"
في إعادة لإنتاج الصورة
القديمة ، ولكن لإضفاء
ألوانٍ جديدة علي
الصورة ، تمثّلت في
امانيه المتلهفة لإنتاج صورة تُشبع خواء روحه المتيبّسة
والفقد الذي حرمه ملذات الطفولة
وحنوّ الامومة.
" وحنين ُ صوتِها يُهدئ من روعي ..أصبحتَ رجُلاً
يا وليد"..."فرحتُ وهي تناديني باسمي..
اخترق أُذُني صوتٌ أحِبّه ..يزلزلني ..كصوتِ امي: لاتخَف ياوليد
..لاتخف…صرتُ تجاه الصوت".
انتهي الجزءُ الاول من القصة ب
"صمتٍ طويل"
وهو الموت،وانتهي الجزء الآخر ب "صرتُ تجاه الصوت"وهو الحرص علي
استمرارية البحث عن الصورة المُفتقدَة ، الباقية في أعماقه ، وهي أمه ، في رسم صور
عديدة لها علي مرّ الزمان (صورة أُخري
لأُمي).
تبقي آثارُ الكارثة في أعماقه فاجعة تُلِمُّ به، ويمتد
الطريق ولاينتهي في البحث عن تلك الصورة التى
في خياله.
وقد استطاع الكاتب تناول زاوية ،هي الاشد تأثيراً
علي الجانب الإنساني ،
واستطاع بأسلوبه الادبي البليغ إن يُتقِن رسمَ صورتِه ،بين قوله
:
"صراخٌ..لايسمعه إلاّ انين الحجارة" كاشارة لانسنِة
الجمادات او تشخيصها ، وجعلها
تشعر وتُحس
كانسانٍ مُرهَف ، وكذلك في قوله:
"فاحتضنته الحجارة"..وحديثها مع وليدها وهو مازال في
رحمها:"ارجوك انتظر ..لامكان لك هنا الآن".
في تصويرٍ عميق
للأمومة ، وهي تخشي علي
وليدها الخروج …وغير ذلك.
وربما هذا ماعناه(باختين)بقوله: " أنَّ الرسّام
يري
كلَّشيٍ أولاً ، ثم يشكّل بعد ذلك مايراه ،ويضعه علي سطح لوحته وفقاً لتكنيك
محدّد ، غير إنّ الرؤية
والتشكيل يتداخلان ..فوسائل التشكيل الجديدة تُجبرنا علي رؤية جوانب جديدة
من الواقع المرئى".
ولقد أتقن الكاتبُ رسمَ لوحتِه بشكلٍ
مُتقَن ومؤثِّر
وأن يصل بفكرته للقارئ علي نحوٍ يستحق التحية.
…………
تمنياتنا للأديب(صلاح هلال الحنفي) بالتوفيق
-------------------
االقصة
"صورة أخرى لأُمّى"
من مجموعتي القصصية :
"تحولات أخري للخروج"
..................
1- لحظةُ وجود
بعد صُراخٍ طويلٍ من جميعِ البشرِ خارج وتحت الأنقاضِ لا يسمعُه إلا أنينُ
الحجارةِ حتي الهواتفُ النقالةُ أصبحت صماءَ مثلها
تحاول امرأةٌ محشورةٌ تُحرِّك
نفسَها فيزدادُ أنينُها معهم ،
الغُبارُ لا يرحم ، يسرحُ في
عتمةِ الليلِ بين الأحجارِ يخترقُها بِصقيع ..كوَّرت نفسَها تحت
انقاضهِ ، تبحثُ بعينَيها عن أولادِها
وعن طفلتِها الصُّغرى وجدتهُم بين
شِقَّيْنِ كالَّلحدِ في الرُّكامِ
تسمعُ أنينَهم ...تقاوم...
تجاهدُ نفسَها يعلو صراخُها:
-اصبروا
اصبروا، سيجعلُ اللهُ
لنا مخرَجا. تارةً تتحسَّسُ بطنَها ،يلاعبُها جنينُها
تسألُ نفسَها ،وهو يتقلُّبُ في جنباتِ رَحِمها
كنتُ أنتظرُك ياوليدي ، وجودُك فرحتي. فرحةُ إخوتك البنات والجدَّة والغِربال ، أرَي رحمي لك سكينةً وهدوء
إنُّه أرحبُ من هذهِ الحياةِ الآن .
يحاورُها الجنين
أريدُ أن أحيا بين
الحياةِ لأرَى وجهَكِ يا أُمَّاه
أرجوكَ انتظِر
لامكان لك هنا الآن .
الجنينُ يسألُ
لماذا ياأمَّاه ؟
اصبر ياحبيبي.
-أشُمُّ رائحةً
غريبةً تخنُقُ أنفاسى
- ألفُ سلامةٍ
عليك ياضنياي ... أنت حُلمي..
وآمالي.
...ُاصبِر
.رُبَّما يجعلَ الله لنا مخرَجا.
. صرخَتْ صرخاتٍ مُستمِّرة
... تحتضنُ الحجارةَ الصماءَ ..
تُواسيها... تبكي معها ... تساعدُها ...
تعقُبها صرخةُ
حياةٍ جديدة....
فاحتضنته الحجارة ..ابتسَمت لَهُ
ببنما وقفَتْ عيناها لاترمِشان
علي وليدِها تبتسمُ
لَهُ وتضحكُ ضحكاتٍ
مُستمِّرة ........
يعقُبها صمتٌ
طويلٌ لا ينتهي....
2- رائحةُ وُجود
رجعتُ إلي ميلادي بعد أن
أخبَرَتني أُمِّي التي
ربَّتني في كنَفِها ، والتي
دائماً ماتقول:‐ أنتَ أوَّلُ فرحَتي وآخِرُها
وابني الوحيدُ في الوُجود ،
أعطتني كلَّ حنانِ الأُمومةِ.. كلما
ناديتُها يا أُمِّي أري نورَ وجهِها
يزغردُ في عينينا ،
ترفعُني مِن علي
الأرضِ وحتي لما
كبرت .
هذا النورُ أعطاني نورَ
الحياةِ من علومِها و كرامةٍ في مجتمعٍ
أصبحتُ فيه جزءاً منه
لمّاعرَفتُ السببَ في وجُودى
في حُضنِها
حكَت لي عن أهلي .. .وترجَّتني ألا
اترُكها .
.. تركتُ جدرانَ بيتي الدافئ
، بحثاً
عن عائلتي.. عن أُمِّي.. عن
رائحتِهما من بين أنقاضِ
بيتِنا
تمنَّيتُ أن أري وجهَهم
سألتُ كثيراً
عن عائلتي
أري منهم صمتاً . هل خوفاً علىًّ؟
تأتي على مسامِعي أقاويلُ أخري كثيرة
مَن قال : -هُنا دُفِنُوا ..ومَن
قال:
هناك ناموا مع الأَجداد
أمشى في عَتمةِ الليلِ أري
وجوهَ تُتابعني ..تسألني .أين أنت
ذاهب في هذا الوقت
يابُنَيّ ؟!
كلما اقتربتُ ،يضايقُني نورٌ أصفرَ أتاني من لمبةٍ مُعلَّقةٍ بفروعِ شجرةٍ
عتيقة .. وعلي الفَورِ أخرجتُ هاتفي
ومشيتُ علي نورِ كشَّافِه ... تقابلُني شواهدُ تاريخ أجدادي.
جسمي يعتريه الخوفُ والرَّهبة،
أواصلُ شريطَ الذكرياتِ
هل أشبهُ أمِّي؟
أبي ؟ أمِ الإثنَين ؟.
من بينِ الصَّمت ؛ يتملَّكني الفزعُ
والخوف ... اتلو سورةَ "الإخلاص": أشعرُ
براحةٍ وطُمأنينة
وقفتُ أُعِيدُ سورةَ "الإخلاص"
وجدتُ في مُخَيِّلَتي أنواراً كالبرقِ في سماءِ عقلي ترسمُ
وجهَ أُمِّي تجذبُني
بقُوَّةٍ ..ارتعشَت مفاصلي
صدي صوت:-
"لاتخَفْ... نحن
هنا"
لم أرَ شاهداً لعائلتي.
فأصبحتُ شاهدا ..
سامِحيني لم أعرفْ مكانَك إلّا
بالأمس جئتُ إليكِ وتُسابقُني أنفاسي عبرَ
الطُرُقِ ياأمّاه؛
أحسستُ أنِّي طفلٌ رضيعٌ .. احتضَنتني
بين ضلوعِها …بحثتُ
عن ثَديِها ، التقمْتُه وهي تمسحُ
بكَفَّيها دموعي المُنهمِلة علي وجهي
وحنينُ صوتِها يُهدِّئ من
رَوعى
_أصبحتَ رجُلاً ياوليد .
.فرحتُ وهي تناديني
باسمي.
أفزعني مواءُ قِطَّةٍ تتحوّلُ
لألوانٍ مـختلفة
يزدادُ حجمُها ويكبُر
ثم تصغر تصغر حتي عادت إلي
سيرتِها الأُولي
عاد الصمت .....
أراها مرَّةً أُخري
تجري وتدخلُ بين فتحاتِ أبوابٍ
مُغلَقة،
كأنّها تجري في عِبِّي، وجسمي
يرتعش... عندما رأيتُها تحت إحداهما
تفترش دماً .
أيقنت أنَّ الأرضَ ترتعشُ بي
وأدورُ مع هزَّاتِها كأنُّه دُوَّارُ بحر
من الجانب الأخر اخترقَ
أُذُني صوتٌ أُحِبٌُه يُزلزلُني عشتُ معه يشقُّ الظلمةَ مع أذانِ الفجرِ كصوتِ أُمِّي
لا تخَف ياوليد .....لاتخَف
صرتُ تجاهَ الصَّوت....
تمت