محمد الطحيني
الفلسفة الأخلاقية في الديانة الزردشتية
الإنسان ميدان قتال - النار المخلدة - الجحيم والمطهر والجنة - عبادة مثرا
- المجوس - البارسيين
لمّا صوّر الزردشتيون العالم في صورة ميدان يصطرع فيه الخير والشر، أيقظوا
بعملهم هذا في خيال الشعب حافزاً قوياً مبعثه قوة خارجة عن القوى البشرية، يحض على
الأخلاق الفاضلة ويصونها. وكانوا يمثلون النفس البشرية، كما يمثلون الكون، في صورة
ميدان كفاح بين الأرواح الخيّرة والأرواح الشريرة؛ وبذلك كان كل إنسان مقاتلاً،
أراد ذلك أو لم يرده، في جيش الله أو في جيش الشيطان، وكان كل عمل يقوم به أو
يغفله يرجح قضية أهورا مزدا أو قضية أهرمان. وتلك فلسفة فيها من المبادئ الأخلاقية
ما يعجب به المرء أكثر مما يعجب بما فيها من مبادئ الدين- إذا سلمنا بأن الناس في
حاجة إلى قوة غير القوى الطبيعية تهديهم إلى طريقهم الخُلق الكريم. فهي فلسفة تضفي
على الحياة الإنسانية من المعنى ومن الكرامة ما لا تضفيه عليه النظرة العالمية
القائلة بأن الإنسان ليس إلا حشرة دنيئة لا حول لها ولا طول (كما كان يقول أهل
العصور الوسطى)، أو آلة تتحرك بنفسها كما يقول أهل هذه الأيام. ذلك أن بني الإنسان
حسب تعاليم زردشت ليسوا مجرد بيادق تتحرك بغير إرادتها في هذه الحرب العالمية؛ بل
كانت لهم إرادة حرة، لأن أهورا مزدا، كان يريدهم شخصيات تتمتع بكامل حقوقها، وفي
مقدورهم أن يختاروا طريق النور أو طريق الكذب. فقد كان أهرمان هو الكذبة المخلدة،
وكان كل كذاب خادماً له.
ونشأ من هذه الفكرة قانون أخلاقي مفصل رغم بساطته يدور كله حول القاعدة
الذهبية وهي أن "الطبيعة لا تكون خيّرة إلا إذا منعت صاحبها أن يفعل بغيره ما
ليس خيراً له هو نفسه" . وتقول الأبستاق أن على الإنسان واجبات ثلاثة.
"أن يجعل العدو صديقاً وأن يجعل الخبيث طيباً، وأن يجعل الجاهل عالماً".
وأعظم الفضائل عنده هي التقوى، ويأتي بعدها مباشرة الشرف والأمانة عملاً وقولاً.
وحرّم أخذ الربا من الفرس، ولكنه جعل الوفاء بالدين واجباً يكاد أن يكون مقدساً.
ورأس الخطايا كلها (في الشريعة الأبستاقية كما هي في الشريعة الموسوية) هو الكفر.
ولنا أن نحكم من العقوبات الصارمة التي كانت توقع على الملحدين بأن الإلحاد كان له
وجود بين الفرس، وكان المرتدون عن الدين يعاقبون بالإعدام من غير توان. لكن ما أمر
به السيد من إكرام ورحمة لم يكن يطبق من الوجهة العملية على الكفار، أي على
الأجانب، لأن هؤلاء كانوا صنفاً منحطاً من الناس أظلهم أهورا- مزدا فلم يحبوا إلا
بلادهم وحدها لكي لا يغزو بلاد الفرس، ويقول هيرودوت أن الفرس: "يرون أنهم
خير الناس جميعاً من جميع الوجوه ". وهم يعتقدون أن غيرهم من الأمم تدنوا من
الكمال بقدر ما يقرب موقعها الجغرافي من بلاد فارس، وأن " شر الناس أبعدهم
عنها". إن لهذه الألفاظ نغمة حديثة وإنها لتنطبق على جميع الأمم في هذه
الأيام.
ولما كانت التقوى أعظم الفضائل على الإطلاق فإن أول ما يجب على الإنسان في
هذه الحياة أن يعبد الله بالطهر والتضحية والصلاة. ولم تك فارس الزردشتية تسمح
بإقامة الهياكل أو الأصنام، بل كانوا ينشئون المذابح المقدسة على قمم الجبال، وفي
القصور، أو في قلب المدن، وكانوا يوقدون النار فوقها تكريماً لأهورا- مزدا أو
لغيره من صغار الآلهة. وكانوا يتخذون النار نفسها إلهاً يعبدونه ويسمونها أنار،
ويعتقدون أنها ابن إله النور. وكانت كل أسرة تجتمع حول موقدها، تعمل على أن تظل
نار بيتها متقدة لا تنطفئ أبدا، لأن ذلك من الطقوس المقررة في الدين. وكانت الشمس
نار السماوات الخالدة تعبد بوصفها أقصى ما يتمثل فيها أهورا- مزدا أو مثرا كما
عبدها إخناتون في مصر. وقد جاء في كتابهم المقدس: "يجب أن تعظم شمس الصباح
إلى وقت الظهيرة وشمس الظهيرة يجب أن تعظم إلى العصر، وشمس العصر يجب أن تعظم حتى
المساء... والذين لا يعظمون الشمس لا تحسب لهم أعمالهم الطيبة في ذلك اليوم،
وكانوا يقربون إلى الشمس ، والى النار، والى أهورا- مزدا القرابين من الأزهار،
والخبز، والفاكهة، والعطور، والثيران، والضأن، والجمال، والخيل، والحمير، وذكور
الوعول. وكانوا في أقدم الأزمنة يقربون إليها الضحايا البشرية شأن غيرهم من الأمم.
ولم يكن ينال الآلهة من هذه القرابين إلا رائحتها، أما ما يؤكل منها فقد كان يبقى
للكهنة والمتعبدين، لأن الآلهة- على حد قول الكهنة- ليست في حاجة إلى أكثر من روح
الضحية. وظلت العادة الآرية القديمة عادة تقديم عصير الهوما المسكر قرباناً إلى
الآلهة باقية بعد انتشار الدين الزردشتي بزمن طويل، وإن كان زردشت نفسه جهر بسخطه
على هذه العادة، وإن لم يرد لها ذكر في الأبستاق. وكان الكهنة يحتسون بعض هذا
العصير المقدس، ويوزعون ما بقي منه على المؤمنين المجتمعين للصلاة.فإذا حال الفقر
بين الناس وبين تقديم هذه القرابين الشهية، استعاضوا عنها بالزلفى إلى الآلهة
بالأدعية والصلوات. وكان أهورا مزدا كما كان يهوه يحب الثناء ويتقبله، ومن ثم فقد
وضع للمتقين من عباده طائفة رائعة من صفاته أضحت من الأوراد المحببة عند الفرس.
فإذا ما وهب الفارسي حياة التقى والصدق كان في وسعه أن يلقى الموت في غير
خوف؛ ومهما يكن من الأغراض التي يهدف إليها الدين فإن هذا المطلب كان أحد مطالبه
الخفية. وكان من العقائد المقررة أن أستواد إله الموت يعثر على كل إنسان أيا كان
مقره؛ فهو الباحث الواثق، الذي لا يستطيع الإفلات منه آدمي ولو كان من أولئك الذين
يغوصون في باطن الأرض. كما فعل أفرسياب التركي الذي شاد له تحت أطباق الثرى قصراً
من الحديد يبلغ ارتفاعه قدر قامة الإنسان ألف مرة، وأقام فيه مائة من الأعمدة،
تدور في سمائه النجوم والقمر والشمس تغمره بأشعة النهار. وكان في هذا القصر يفعل
كل ما يحلو له ويحيا أسعد حياة. ولكن لم يستطع رغم قوته وسحره أن يفر من أستواد
... كذلك لم يستطع النجاة منه من حفر الأرض الواسعة المستديرة التي تمتد أطرافها
إلى أبعد الحدود كما فعل دهاق إذ طاف بالأرض شرقاً وغرباً يبحث عن الخلود فلم يعثر
عليه. ولم يفده بأسه وقوته في النجاة من أستواد...ذلك أن أستواد المخاتل يأتي
متخفياً إلى كل إنسان، لا يعظّم شخصاً، ولا يتقبل الثناء ولا الارتشاء، بل يهلك
الناس بلا رحمة.
ولما كان من طبيعة الأديان أن ترهب وتنذر، كما تأسو وتبشر، فإن الفارسي رغم
هذا كله لم يكن ينظر إلى الموت في غير رهبة إلا إذا كان جندياً يدافع عن قضية
أهورا مزدا. فقد كان من وراء الموت، وهو أشد الخفايا كلها رهبة، وجحيم، وأعراف،
وجنة. وكان لا بد لأرواح الموتى بأجمعها أن تجتاز قنطرة تصفى فيها، تجتازها
الأرواح الطيبة فتصل في جانبها الثاني إلى "مسكن الفناء" حيث تلقاها
وترحب بها "فتاة عذراء، ذات قوة وبهاء، وصدر ناهد، مليء" ؛ وهناك تعيش
مع أهورا- مزدا سعيدة منعمة إلى أبد الدهر.
أما الروح الخبيثة فلا تستطيع أن تجتاز القنطرة فتتردى في درك من الجحيم
يتناسب عمقه مع ما اقترفت من ذنوب. ولم يكن هذا الجحيم مجرد دار سفلى تذهب إليها
كل الأرواح طيبة كانت أو خبيثة كما تصفها الأديان الأقدم عهداً من الدين الزردشتي،
بل كانت هاوية مظلمة مرعبة تعذب فيها الأرواح المذنبة أبد الآبدين. فإذا كانت
حسنات الإنسان ترجح على سيئاته قاسى عذاباً مؤقتاً يطهره من الذنوب، وإذا كان قد
ارتكب كثيراً من الخطايا ولكنه فعل الخير، لم يلبث في العذاب إلا اثني عشر ألف عام
يرفع بعدها إلى السماء.
ويحدثنا الزردشتيون الصالحون بأن العالم يقترب من نهايته المحتومة؛ ذلك بأن
مولد زردشت كان بداية الحقبة العالمية التي طولها ثلاثة آلاف سنة، وبعد أن يخرج من
صلبه في فترات مختلفة ثلاثة من النبيين ينشرون تعاليمه في أطراف العالم، يحلّ يوم
الحساب الأخير، وتقوم مملكة أهورا- مزدا، ويهلك أهرمان هو وجميع قوى الشر هلاكاً
لا قيام لها بعده. ويومئذ تبدأ الأرواح الطيبة جميعها حياة جديدة في عالم خال من
الشرور والظلام والآلام: "فيُبعث الموتى، وتعود الحياة إلى الأجسام، وتترد
فيها الأنفاس ... ويخلو العالم المادي كله إلى أبد الدهر من الشيخوخة والموت
والفساد والانحلال".
وهنا أيضاً نستمع، كما نستمع في كتاب الموتى المصري، إلى التهديد بيوم
الحساب الرهيب، وهو تهديد يلوح أنه انتقل من فلسفة الحشر الفارسية إلى الفلسفة
اليهودية أيام أن كانت للفرس السيادة على فلسطين- ألا ما أروعه من وصف خليق بأن
يرهب الأطفال فيصدعوا أوامر آبائهم!
ولما كان من أغراض الدين أن ييسر ذلك الواجب الصعب الضروري، واجب تذليل
الصغار على يد الكبار، فإن من حق الكهنة الزردشتيين أن نقرّ لهم بما كانوا عليه من
مهارة في وضع قواعد الدين. وإذا ما نظرنا إلى هذا الدين في مجموعهِ ألفيناه ديناً
رائعاً أقل وحشية ونزعة حربية، وأقل وثنية وتخريفاً من الأديان المعاصرة له، وكان
خليقاً بألا يُقضى عليه هذا القضاء العاجل.
وأتى على هذا الدين حين من الدهر في عهد دارا الأول كان فيه المظهر الروحي
لأمة في أوج عزها. ولكن بني الإنسان يولعون بالشعر أكثر من ولعهم بالمنطق، والناس
يهلكون إذا خلت عقائدهم من بعض الأساطير. ومن أجل هذا ظلت عبادة مثرا وأنيتا- إله
الشمس وإلهة الإنبات والخصب والتوالد والأنوثة- ظلت هذه العبادة قائمة إلى جانب
دين أهورا- مزدا الرسمي تجد لها أتباعاً مخلصين، وعاد إسماهما إلى الظهور من جديد
في النقوش الملكية أيام أرت خشتر الثاني، وأخذ اسم مثرا بعدئذ يعظم ويقوى، كما أخذ
أهورا- مزدا يضمحل. وما أن وافت القرون الأولى من التاريخ الميلادي حتى انتشرت
عبادة مثرا الإله الشاب ذو الوجه الوسيم- الذي تعلو وجهه هالة من نور ترمز إلى
الوحدة القديمة بينه وبين الشمس- في جميع أنحاء الدولة الرومانية، وكان انتشارها
هذا من أسباب الاحتفال بعيد الميلاد عند المسيحيين . ولو أن زردشت كان من المخلدين
لتوارى خجلاً حين يرى تماثيل أنيتا أفرديتي الفرس، تقام في كثير من مدن
الإمبراطورية الفارسية بعد بضعة قرون من وفاته. وما من شك في أنه كان يسوئه أن يجد
صحفاً كثيرة من صحف وحيه قد خصها المجوس بطلاسم لشفاء المرضى والتنبؤ بالغيب
والسحر وذلك أن "الرجال العقلاء" أي كهنة المجوس قد غلبوا زردشت على
أمره، كما يغلب الكهنة في آخر الأمر كل عاتٍ عاصياً كان أو زنديقاً، وذلك بأن
يضموه إلى دينهم أو يستوعبوه فيه؛ فسلكوا أولاً في عداد المجوس، ثم لم يلبثوا أن
نسوا ذكره. وما لبث هؤلاء المجوس بزهدهم وتقشفهم، واقتصارهم على زوجة واحدة،
ومراعاتهم لمئات من الطقوس المقدسة، ومن تطهرهم بمئات الأساليب اتباعا لأوامر
الدين وطقوسه، وبامتناعهم عن أكل اللحوم، وبملبسهم البسيط الذي لا تكلف ولا تظاهر
فيه، ما لبث هؤلاء أن اشتهروا بالحكمة بين الشعوب الأجنبية، ومنهم اليونان أنفسهم،
كما أصبح لهم على مواطنيهم سلطان لا تكاد تعرف له حدود. لقد أصبح ملوك الفرس
أنفسهم من تلاميذهم، لا يقدمون على أمر ذي بال إلا بعد استشارتهم فيه، فقد كانت
الطبقات العليا منهم حكماء، والسفلي متنبئين وسحرة، ينظرون في النجوم ويفسرون
الأحلام؛ وهل ثمة شاهد على كعبهم اكبر من أن اللفظ الإنكليزي المقابل لكلمة
"السحر" Magic مشتق من اسمهم. وأخذت العناصر الزردشتية في
الديانة الفارسية تتضاءل عاماً بعد عام؛ نعم إنها انتعشت وقتاً ما أيام الأسرة
الساسانية (226- 651 ب. م)، ولكن الفتح الإسلامي وغزو التتار قضيا عليها القضاء
الأخير. ولا يوجد أثر للديانة الزردشتية في هذه الأيام إلا بين عشائر قليلة العدد
في ولاية فارس، وبين البارسيين من الهنود الذين يبلغ عددهم تسعين ألفاً.
ولا تزال هذه الجماعة حفيظة على كتبها المقدسة، تخلص لها وتدرسها، وتعبد
النار والتراب، والأرض والماء، وتقدسها، وتعرض موتاها في "أبراج الصمت"
للطيور الجارحة كي لا تدنس العناصر المقدسة بدفنها في الأرض أو حرقها في الهواء.
وهم قوم ذوو أخلاق سامية وآداب رفيعة، وهم شاهد حي على فضل الدين الزردشتي وما له
من أثر عظيم في تهذيب بني الإنسان وتمدينهم.
محمد الطحيني
يتبع- ديانة أسفار الفيدا