الخيانة الإبداعية
العقيد بن دحو
الاجمل ما في الأدب و الفن و الثقافة ، يمتاز بالظاهر الاجتماعية ، خيرا فخير
وشرا فشر !.
فبقدر ما يكون الصدق و الوفاء ، بقدر ما يكون الكذب ، الخيانة و اللصوصية و
السرقات بكل انواعها ، و الفساد الأخلاقي و الاجتماعي ، الثقافي الاقتصادي ، و
بقدر ما يكون النجاح بقدر ما يكون الفشل الاعم ايضا.
وصولا إلى ما يميز القيم يميز الأدب و الفن و الثقافة عموما.
حديثنا حول الخيانة الابداعية او الخيانة الخلاقة تبدو لها ارتباطا وثيقة
بالكتاب المؤلف الفنان ، فساعة ما يشرع كتابة بأول حرف ؛ اول كلمة ؛ اول جملة .
ساعة ما تشرع (الخيانة الابداعية) تنسج خيوطها ، كون المبدع يكتب او يرسم او ينحث
ليعبر عن أشياء اخرى لم تخطر ببال الاديب او الفنان او المثقف. تماما كذاك الباحث
الذي كان يبحث عن شيئ معين فعثر عن شيئ آخر!
او كنا قال الفنان (بيكاسو) : " حين يعوزني اللون الازرق استخدم اللون
الأحمر " !.
او كما قال رامبو : انا لا ابحث انا اجد !
وعندما يتم استبدال نيات الكاتب التي اصبحت مبهمة بنيات جديدة مفترضة قد
تنجم بنيات جمهور جديد. و هذا ما يسمى " بالخيانة الابداعية".
ولا تحصل هذه الخيانات من عصر إلى عصر ، بل من بلد إلى بلد ، و من فئة
اجتماعية إلى فئة اجتماعية داخل البلد الواحد. ان الشاعر " كيبلينغ"
صاحب مقولة : الشرق شرق و الغرب غرب فلن يلتقيا ابدا . الذي قتلته في إنجلترا
أسطورة الاستعمار ، تنبعث حيا و من جديد في فرنسا ، قبل وفاته بالجسد ، بواسطة
الأدب الطفولية، و في روسيا بواسطة أدب النضال.
ان كيبلينغ تأمل طويلا في مثل (سويفت) و في لا تكسبية مواهب العناية الأدبية
التي انكرت عليه التفوق و النجاح الذي كان قد حققه لكنها وفرت له نحاحا لم يخطر
بباله. وقد اكد في أواخر حياته عن عجز الكاتب
عن ان يتكهن عن الإفراج و الحقائق التي سيوقظها اثره فيما وراء عالمه.
ولعل أهمية أهلية اثر (...) لان يكون موضوع خيانة ابداعية ، خلاقة هي
العلامة على كونه اثرا ادبيا فنيا ثقافيا كبيرا . الثابت فهو ان انواع الاستعمال
التي يمارسها الجمهور على الأعمال الأدبية الفنية الثقافية ، هي التي توحي وجهها
الحقيقي ، تهذبه او تشوهه . ان تعرف ماهو كتاب ما ، هو ان تعرف اولا كيف قرئ.
وان تعرف ما هي اللوحة هو ان تعرف كيف شوهدت
و ما يسقط على المنحوثة ايضا من جميع الجهات النسبة و المتناسبة الأشكال و
الحجوم.
اذن تعتبر الخيانة الخلاقة ، المبدعة ، بمثابة المفتاح الاخير الذي يمكن
القارئ المثقف من الغوص في مغاليق ورصد وسبر أغوار مكنوناتها للناس أجمعين. و لفتح
النص الأدبي.
لا تزال انواع واجناس ادبية مختلفة تشكل النموذج و الامثولة الخلاقة
للخيانة الابداعية ، لا سيما تلك الأعمال و الآثار الكلاسيكية الرومانسية او
النيوكلاسيكية ، تلك التي أعطيت لها معاني و قيم وصور فلسفية اخرى طبقا لقواعد
العصر. كاعمال " اسخيلوس" اليوناني الذي اتخذ منها المفكر الوجودي ( جون
بول سارتر) ابعادا اخرى ، من ثلاثية اسخيلوس ( اجاممنون - اوريست - حاملة القرابين
) إلى الذباب او الندم !.
فهناك خيانة ابداعية من العنوان ، إلى الفكرة ، إلى البلد ، إلى الكاتب ،
إلى المذهب او المدرسة الفنية.
على الرغم من كلمة ( خيانة) كلمة مذمومة و غير اخلاقية على جميع المقاييس ،
إلا انها غير خيانة عظمى ، بل لولاها لما تمكنا من الاطلاع على أعمال و آداب وفنون
الامم الاخرى محاكاة و مقارنة و محاكمة ( استقراء - استنتاج - تقييم وتقويم ) و
ترجمة.
اذن بعد ما كنا اطلعنا على ان الاداب تمرض بمرض الإنسان و المحيط البيئة و
التاريخ ، و تتعافى ايضا و تخضع للمعالجة الاكلينيكية الفنية ، و بعد ما كنا قد
اكتشفنا الكذب الفني مقابلا للصدق الفني ، و بعد ما كنا قد وجدنا العدالة الشعرية
، ليس غروا ان نجد اليوم و نكتب عن الخيانة الابداعية. كون الآداب و الفنون تمتاز
بالظاهر الاجتماعية. اي ما يميز المجتمع البشري يميز الأدب خاصة و الفنون
الزمكانية عامة.
صحيح لا يترتب عن هذه ( الخيانة) اي جزاء او قضاء كما هو بالظاهر الجمعي
الواقعي الطبيعي ، لكن علمتنا الحضارة اليونانية ان العدالة قائمة في الأثر ذاته (...)
!. العدالة الشعرية ، و ان القانون لا يجب أن يكون مناهضا للعدالة ، وإن الجريمة
لا تفيد !.
وان الخائن مذنب ، و لا بد بالاخير من العدالة ان تأخذ مجراها و لا تبطل
أحكامها بالتقادم او باي شكل من الأشكال، و ان الزمن لاله رحيم كما قالت الاغارقة
قديما .