عندما يرى مجانين العالم صورهم بمراة العقل
العقيد بن دحو
يبدو العالم يجنح نحو الجنون اكثر من اي عقلانية سابقة او حاليا او لاحقا.
وهو يرى حجم العلاقات بين البشر لم تعد بين البشر و البشر ، و انما
بالأشياء(...) فجن جنون من جن و الباقي ينتظر !.
بل حتى عنداولئك ارتموا في حوض السباحة فارغا ، ظل واحدا منهم متمسكا برايه
بعدم النزول ، و لكن عندما سئل : لم لم
تنزل للتسبح !؟
تحجج بأنه لا يعرف السباحة !
للتأكد للعالم بأن حتى ذاك الذي كان يشار اليه بالبنان بالحكمة. الرزانة.
الاتزان. العقل ، الحصيف ما هو الا مريضا
عقليا وروحيا و نفسيا ، توهم و غالط مرافقيه بأنه يتماثل للشفاء.
حجم الكارثة وهول الصدمة لو اكتشف كافة الطاقم الطبي بانه مجنونا ، فتمتة
لم و لن تبقى أمامنا الا المقولة التاريخية : " دع المجنون يحاور المجنون
" او الحماقة اعيت من يداويها!
فنتيجة الحوار كانت مما نعيشه اليوم من حضارة رقمية ما بعد الذكاء مجنونة
!.
حين الواحد منا يدخل في حالة " مهتلسة " مع جهازه الخلوي اكثر
مما يقال عليه انه يهتلس. يقول أشياء لا معنى لها... كلمات جوفاء خرقاء رعناء ،
يجيب عنها الطرف الآخر بنفس الرعونة و الخرق و الهترفة ، خوفا من يقال عليه لا
توجد له علاقات او لا يحسن الكلام اصلا !
تكلم كي اراك ، او لا تتكلم اصلا فالرؤية واحدة. مشهد شواش غير واضح الصورة
و المعالم ، فيه (الادعاء) اكثر مما بالجوهر !.
انسان مريض عقليا يحدث نفسه بعرض قارعة الطريق ، هو نفسه ذاك الشخص الذي
يحمله هاتفه الذكي و يخاطب مجنون او مجنونة مثله ، تدعي الحب و اشياء اخرى... و
تضرب مواعيد مع الجنون ثم يعودون إلى نفس المربع الأول على أمل ان تكون مكالمة
صباحية او رسالة ما تصبحي على أمل، هو يعلم بأنه مخدر موضعي كيما لا يتمكن من كسر
قيده ، او من فك سواره الالكتروني... حتى لا يخرج عن مجال التغطية او يشط عن
القاعدة الجنونية !.
صعب أن تكون عاقلا في هذا الظرف ، و كل من حولك يدعي الذكاء الفطري و
المكتسب ، البيولوجي الفيزيولوجي و الصناعي. متأخر انت على ركب قطار الخرف و بداية فقدان الصواب ،
ونزع ما كان يستر عوراتك الخفيفة و الثقيلة !.
الان بإمكانك ان تتحجج بالجنون و تقول ما لم تكن تجرأ قوله ما قبل الجنون ،
ان تفعل ما تشاء بلا حسيب و لا رقيب ، بعد ان كنت تدعي الرشد و الصلاح و النظام و
السلوك الحسن !.
هذه المرأة الفجة لا تعرف أوجه اخرى الاستعارة، و لا عمليات تجميلية و لا
اقنعة ، اظهرت العالم على صورته الحقيقية. كما هو في ذاته ممزق الاشلاء، اشغث اغبر
من الداخل !.
يدعي في الامور فلسفة و هو أشد العاجزين.
جنون ما بعده جنون يعيش هذا العالم بلا صفات ، و هو يملك حقيبة شفرة هلاكه
النووي و هلاك من حوله ، في أي لحظة ان يتناول هذا المريض مسكنات و مهدائاته يمكن
أن يهتلس... يتعلق و بكبسة زر قفل صغير يعبر الموت الزقوم العالم ، ويمسح البشر و
الحجر و الشجر من على وجه الكوكب !.
كون الاشارة أعطيت لمجانين العالم ليحكموا العالم.
لقد عرفت الاغريق فكرة الجنون مما قبل التاريخ ، و جسدها قي صورة البطل
" فيلوكتيتيس" او يسمى " فيلوكتيت" للشاعر الدرامي التراجيدي
الكلاسيكي " صوفوكليس" او يسمى " صوفوكل". لقد جن جنون البطل
، عندما فاز بالجائزة غريمه ، فانحى بسيفه البتار على ثيرة و ماشية اليونان دبحا و
تقتيلا . و لما لاح له الصبح باولى تباشير النهار ، راى ما اقترفت يداه، استخزى
الامر ، ووجه نفس السيف إلى صدره و قتل نفسه ؛ في لحظة من لحظات استرداد وعيه.
كانت هذه عقدة او اسطورة الجنون عند الاغارقة القدماء مما قبل التاريخ ، او
مما قبل الميلاد.
اما في هذا العصر الذي اثقله منطقه ، جنون بلا ذائقة فنية و لا اجتماعية ز
لا ثقافية و لا اقتصادية و لا سياسية !.
من الأفضل( المجنون) ان يظل مجنونا ، حتى لا يسترجع وعيه او يعود اليه على
حين غرة ، و يرى ما اقترفت يداه في حق نفسه و في حق من حوله و يقتل نفسه ، هذا ان
كان اصلا مجنونا !.
فهو لقب لا تمنحه جامعات و لا
تشرفه جماعات ، و انما ابداعا و مراسا و خلقا و ابتكارا.
اما جنون العظمة ، حينما يدعي الفرد او الجماعة او حكومة ما او دولة ما بل
العالم بأنه يملك أشياء، هو اصلا لا يمتلكها كالقوة ، الثروة ، الطاقة ، الحكم ،
الشعب ، الجغرافية ، التاريخ ، اللغة ، المعتقدات، البيئة ، التكنولوجيا ، الحياة
، و الموت هذه حالة مرضية جنونية سماها الاغريق القديمة : (ميغالومانيا) / Megalomania الادعاء بما ليس لديه ، او بما ليس يملك.
ان الجنون يحتل الصدارة في عالمنا المعاصر ، في عالمنا الحاضر ، عهد
النهايات (...) ؛ ليست نهاية واحدة كنهاية التاريخ ( فوكوياما) ، و انما نهاية
الفن خاصة منذ ظهور " الانطباعية" و تحول الكائن البشري الى بقع من
الشكل و اللون و بعض التيمات و الإشارات الاخرى التي غالبا ما يصعب رصدها و سبرها
على أي ردار جهاز تفكير بشري ، هذا ان بقي للبشر من جهاز تفكير مادي او معنوية.
يعتقد السيرياليون ان الذين يسميهم العالم مجانين ، هم الذين يوجهون هذا العالم.
انتهى عصر القضاء و القدر ، اين كانت الآلهة تتحكم في مصائر البشر.
وانتهى عصر البشر أين كان الإنسان سيد تقرير مصيره.
وانتهى عصر الاجهزة الدكتاتورية ( البروكستية) أين كان تحول ساكنتها إلى
متاعها إلى أشياء من ضمن اشيائها تقوم عليه بمختلف التجارب بأحد غرفها( الالكترية)
نسبة إلى البطلة اليونانية " الكترا" .
و انتهى عصر ( الالة) أين صار الانتاج يتحكم في الشخص المنتج ، و امتازت
فيها البشر بما تمتاز له البضائع ، اذ انتقل الطابع الصنمي لونا ، كتلة ، مساحة ،
حجما إلى البشر. كما صار العامل مجرد برغي صغير او ترس من تروس دواليبها العملاقة.
وهانحن نعيش عصر الجنون بامتياز ، أين تكون المقابلة رياضية مباراة مجنونة
، و الجماهير بقاعات العرض لقاءات مجنونة ، و الفكرة الجيدة فكرة مجنونة ، و
الانتخابات المحلية و الوطنية انتخابات مجنونة ، و المناورات العسكرية مناورات
مجنونة ، و الحرب على الشعوب و الدول المستضعفة حربا مجنونة.... كل شيئ مسته يد (
ميداس) المجنونة ، و كل من لمسه يتحول إلى لعنة ولو كانت من ذهب ، إلى فقد الوعي.
غير ان جيد ان لا يسترد المرء وعيه و يظل محافظا على جنونه. و الاجمل ان لا
يرى صورته في اي مرأة حتى لا يفاجا بعقل الشقاوة و التعاسة.