للبيوت اسرار او أسرار البيوت
العقيد بن دحو
ابان أواخر
سنوات القرن الماضي ، و بالضبط الثمانينيات ، كنا طلبة بالمعاهد و الجامعات ، بعد
نهاية كل يوم دراسي مضني. نجلس سويا ذكورا و اناثا ، نشط بالحديث ، و نروح على
انفس بعضنا بعضا بما جادت به قرائحنا و ملكاتنا خارج المالوف ، المقنن و المسطر.
لنكتسف خلال هذه السانحة ، الوقت المستقطع من حجم ساعات البرنامج و المنهاج
المقررين . أدب هروب ، فن هروب ، فكر هروب. وان الطالبات خصوصا يملكن مواهبا
ابداعية جد جد متقدمة. لكنها اقتصرت على البيوت ، و سجنت او حبست هذه الموهبة
او تلك ( الملكة) السماوية ، بين أربعة
حيطان من المطبخ إلى غرفتها إلى الحمام إلى شرفات المنازل.
حتى ان انطبق
عليهن قول ( سوزا) : " الشعر اغنية يسلي الشاعر بها وحدته".
لزلنا نتذكر
بالمقابل اخواتنا و بنات عماتنا ، و بنات خالاتنا، و بنات الجيران و هن يرددن
اغاني مع اغاني المذياع الصباحية : اغاني نورة الجزائرية ،اغاني كوكب الشرق ام
كلثوم ، اغاني وردة الجزائرية ، اغاني فيروز ، اغاني فايزة احمد ، اغاني هيام يونس
، اغاني ميادة الحناوي.... و حتى اغاني فريد الأطرش و عبد الحليم حافظ....وغيرهم
كثير.
اصدقكم القول
ان اصوات بعض زميلاتنا احلى و أجمل من المؤدية نفسها.
لقد ساهمت
حينها امواج الإذاعة الجزائرية ؛ الدخول إلى بيوتنا بغير استئذان ، و احتضنتها
الأسرة و تعلمت منها الكثير.....
هذا هو سر
البيوت الذي ظل المثل يؤرقنا به ، حتى لا يذهب عقلك إلى الأمور الغيبية
الميتافيزيقية ، و إلى ما يسرده الدراويش و المريدين داخل اسرة صدورهم.
السر الوحيد
هو ان المئات من الأسر الجزائرية تملك افرادها ؛ بنات و ذكور مواهبا ابداعية خلاقة
في شتى الميادين ، تلك التي يلتقطها ابنهم او ابنتهم على حين غرة من أولياء أموره،
و يحولها بقدرة قادر إلى لحظات اسرة ساحرة تنفي اللحظة او اي وحدة زمنية اخرى. تلك
التي يلتقطها وهو (يدندن) مع نفسه ، و هو ينظر من خلف الشباك ، و هو يستمع إلى
مذبع او هو يقرأ كتاب ، فيحولها إلى ما يسمى ( باللحظات المسحورة) !
تلك التي التقطها هذا الطالب او تلك الطالبة في
مجرى الزمن ، فيخطها على الورق لفظا ولحظا واشارة او رسما، او يثبتها على الحجر
نقشا و نحثا.
كل هذه
اللمسات الربانية ، و هذا القبول ، و هذه الصلاة - الشعر سحر صوفي مقترن بالصلاة -
تتم سرا ، و قد يقضي الوالدين حياتها كله ؛ وهما
يجهلان ان أبنتهما او ابنهما نابغة من النوابغ في شتى الفنون الزمكانية ؛ و
من حيث هذه تكمل تلك بالواقع المعاش. اذ لا يمكن لأمة من الامم او وطن من الاوطان
ان تزدهر و تتقدم دون فنون و آداب و ثقافات و أفكار شتى كلاسيكية و حديثة و ما بعد
الحداثة ، يضفيها على واقعه المعاش . فتصير حضارة و ثقافة ، توعية ، تعبئة ، و
سلاح !.
لم ار سرا
ببيوتنا بقدر ما هو موجود هذا ( السر) المرضي ؛ الكبث إلى حد كون لهم عقدة نفسية
هدامة ، على انفس أبنائنا و بناتنا. و قد يعيش هذا ، و يتخرج، و يعمل ، و يتزوج ،
و ينجب بدوره بنينا و بناتا ، و يفنى ، و هو لن و لم يجرؤ ان يفشي سره الفني
الجمالي الجميل لابنائه ، خوفا ان يورثه لهم.
وكأنه اقترفت
أثما او وزرا لا يغتفر ...!
لم اجد
بالبيوت سرا غير تلك الأسطورة كاشف أسرار الخلائق بمدريد ، شخصية "
اسمودة" ، تلك التي تملك الخوارق لنزع سقوف منازل الساكنة وهم نياما ليطلع
على أسرارها.
ما الذي تخفي
تلك البيوت السامقة البنيان و الهياكل، عندما تخلو شابة مع نفسها في غياب والدها
او نوم اخيها الاكبر ( البعبع) الحارس الوريث الشفيه عن شرف العائلة !.
وهو يعود إلى
ساعات متاخرة من التثاؤب و الارق مترنحا ، متسكعا. و هي تمسك مكنسة و دلوا من
الماء و خرقة ، و من حين إلى آخر تطلق العنان لعينيها الجميلتين لترى ما خلف
الشباك من جمال وحب وماء و خضرة ووجه حسن ، و شيئ من حتى الاغاني البديعة الصباحية
، تدرب وتمرس حنجرتها الذهبية على ايقاعات الحياة.
كن وهن يرددن
ما تدربن عليه تحت ستارة البيوت جواهر و درر نادرة. خسرتها الأسرة اولا ، خسرها
المجتمع ، و خسرتها الدولة.
ماذا لو وجدت
هذه المواهب التشجيع و الرعاية و الدعم و اليد الرحيمة السخرية الكريمة من
الأولياء و من ( البعبع) الأخ الكبير ، لفاضت القريحة وانتشرت حسنا وجمالا بربوع
البلد و المحيط .
عندنا ليست
المقولة : ( الفن لا يؤكل خبزا ) للرجال فما بالك للنساء! كذا وحدتها المحبطة، لكن
حتى لعبتي الحلال و الحرام تصب في هذا الاتجاه. فالطالب او الطالبة لا ترسم ، لا
تكتب ، لا تبحث، لا ترقص ، لا تغني ، لا تعزف ، لا تمثل فمن أين تأتي الصلاة اذن
!؟
بل من اين
يأتي العمل ، و النخبة ، و الاطر ، و الكوادر الفنية التقنية !؟
مشكلتنا اننا
نعيش بنصف الحياة فقط ، فلا نريد ان نرى إلى النصف المملوء من الكاس ، بل عين
المشاهد كانت دائما تتجه إلى النصف الفارغ !.
جامعاتنا و
معاهدنا متنفسا للعديد من أبنائنا الطلبة و بناتنا الطالبات ، عندما يتنفسون.
الصعداء قليلا ، حرية ، و يبدعون ، عندما
يحطمون أسرار الحيطان الأربع لمنازلهم ، و يجيبون عن فك شفرة اللغز بالأخلاق و
الانعتاق في ملكوت سماء الإبداع، من حيث الإبداع لعبة الله.
السر الوحيد
غيرة هؤلاء الشباب على كا يملكون من قدرات في الإبداع و الابتكار و المحامة. و
الدافع لخلق الرائز المعرفي .
ورغم التطور
الثقافي والرقمي ، ووجود منصات شبكات التواصل الاجتماعي ، و الهواتف الذكية و الحواسيب
الديجتالية ، إلا أن( الرقيب) بالاوعي دائما يظل يراقب هذه الابنة او هذا الابن ؛
على خطيئة سيرتكبها لاحقا. فهو او هي مدان اومدانة حتى تسمع صوتها الجميل ينبعث
انينا من أحد جدران غرفتها ، احتى تصل اخاها الاكبر وشاية ان اختها رقصت في عرس
اختها او زميلتها او احدى اقربائها.
من تمة سوف
تزف بدورها ليس إلى قفصها الذهبي، حلم كل بنت شابة عروس ، انما إلى(هيديز) ، حيث
لا ترى الشمس مطلقا او هو السجن (
الالكتري) : نسبة إلى تلك المرأة الاغريقية " الكترا".
لم يعد
للبيوت من سر ، غير سر الطابوهات و المحرمات ، بحجة المحافظة و الأخلاق، و العمل
على ( واد) مواهب و قدرات بناتنا و
ابنائنا الخلاقة الابداعية البديعة و هي لا تزال في مهدها ،خوفا من عار اجتماعي
يثبت يوميا ان تجاهل عليه جاهل يجهل فوق جهل الجاهلين ! .
السر الوحيد
المتبقي للبيوت بعد ان انكشف كل مستور قول الحكمة التربوية :
" ابداوا بمعرفة ابناءكم فانكم لا تعرفونهم
" .