جاري تحميل ... فنون

إعلان الرئيسية

جديد فنون

عاجل

إعلان في أعلي التدوينة

جديد موقع علَّم نفسك

جديد علَّم نفسك

وجه في الإطار


بقلم محمد نديم علي

وجه قد لا تنتبه لوجوده ، ذو ابتسامة ليست موجهة لشخص ما ، أو موقف ما.
كان وجهها دائم الظهور في خلفية الصورة.
لم يكن يعبأ بها أحد، أو يصادقها أحد ، أو يضمها لمجموعته ، أو أن يلقي إليها التحية.
************ 
كنت في أمسيتي الشتوية القارصة، مقشعرة مشاعري قبل جسدي ، فآثرت أن أتصفح
كتاب الصور الذي لم أفتحه منذ ما يقرب من سنين خمس من الزمن.
************ 
شباب الجامعة يملأهم النشاط والأمل ، تمد الدنيا لهم أكفها بصفحات بيضاء ، يرسمون عليها بحماس صورة مستقبلهم ، محاولا كل منهم أن يثبت شخصيته التي ما زالت تراوح بين نزق الطفولة وحيرة المراهقة.
************ 
لم يكن لها حماقات، ولم نعلم عنها إشاعات ، لم يكن أحد يعبأ أن يحجز لها مقعدا في المدرج ،
أو أن يدعوها لحفل أو لقاء في الكلية ، أو رحلة نقوم بها.
ولكن ما كان يدهشنا ، أننا كنا نراها دائما في خلفية الصور ، يمينا أو يسارا على حافة الإطار،
تمد وجهها الطفولي مبتسمة ،ومشيرة إلى عدسة المصور الذي ربما لم يرها أو يشعر بها.
************ 
لم أرها يوما تستعير دفترا من زميلة أو زميل ، ولم يعبأ أحد أيضا منا أن يستعير منها محاضرة تنقصه ، بالرغم من أنها هي التي كانت تعرض خدماتها في هذا الشأن .وحين كانت المكتبة تضمنا في رحلات ثنائية بين زميل وزميلة ، كنا نراها هناك تبتسم للجميع، محاولة الانضمام لأي مجموعة .بل كان الجميع يتجاهلونها ، ولا يلقون لها بالا.ولم تكن لتغضب أو تلوم أو تعترض ، كانت تبتسم.
************ 
لم أعرف عنها ولا أحد كان يأبه أن يعرف عنها شيئا ، لكن مظهرها كان بسيطا بحيث أنها لم تكن لتلفت انتباه أي شاب ،،، أو فتاة.
ولا أدري لماذا وجهها بالذات هو الذي يحثني الآن أن أتحدث عنه بعد سنين؟.
أذكر هذه الصورة جيدا ، حين خرجنا في رحلة إلى معرض الكتاب ، سرعان ما تفرق الجمع اثنين اثنين ، ومارس الشباب نزقهم الساذج ، ولهوهم البريء قبل أن يفكروا في شراء الكتب.ولا أذكر أن أحدا منا نحن أعضاء لجنة الرحلات قد دعاها إلى الرحلة ، لكن ها هي هنا في خلفية الصورة الجماعية تمد رقبتها النحيلة كي يلحق رأسها بحافة الصورة فيدخلها في آخر لحظة قبل التقاطها.وهي تبتسم ابتسامة راضية.
************ 
أما هذه الصورة فهي في يوم تكريمنا عميد الكلية لترقيته إلى منصب أعلى ، ترى أين هو الآن؟ وقع الاختيار علي وفتاتين أخريين لنقدم له الدرع. كان دخولنا مكتبه في ذلك اليوم ضربا من المستحيل ، لزحمته الشديد برجال الجامعة والإعلام. ها أنا ذا في الصورة والعميد وجها لوجه وبيننا الدرع ، ممسكين به شاهدا على ابتسامات وكلمات مجاملة تعبر بيني وبينه.
يا الهي كيف لي ألا انتبه ؟ في خلفية المشهد : يبدو باب غرفة العميد مواربا ،يظهر منتصفه العلوي بصعوبة بين الرؤوس ، وكان وجهها ، بذات الابتسامة الطيبة الودود كطفل مندهش ، تمد رقبتها النحيلة لتلحق بإطار الصورة العلوي ، بإصرار عجيب ، كي تبدو داخله . 
*********
بين طيات كتاب الصور، الذي كان دافئا حد الاشتعال ، كنت أقلب السنين سنة وراء سنة. رأيتها حاضرة في جميع المشاهد ، وفي كل الحالات والمواقف ، دون أن تتبرم أو تشكو، هنا ، وجهها يطل حزينا في خلفية صورة ليوم عزاء وتأبين زميلة لنا رحلت مبكرا، فلا أعلمها أحد منا بالخبر ولم يدعها أحد كي تأتي معنا للمشاركة الوجدانية.لكنها هنا وبذات الود والحميمية التي تكون عليها ابتسامتها ، هو الآن حزنها.
*********
يوم التخرج ، والآمال متوهجة والفرحة غامرة ، وبين شوق لصورة جديدة للحياة ، وحزن على انقضاء مشهد ظنناه يدوم بحلاوته التي لم تذهب من الوجدان حتى الآن ، كان المشهد صاخبا ، والأصوات متداخلة والصور منها الحاد ومنها المغبش ومنها المطموس، صادقنا من صادقنا ، واقترب منا من اقترب وابتعد من ابتعد ، لكنها كانت أيضا في خلفية صورة التخرج ، يطل رأسها وبالكاد يبدو واضحا في الصورة بابتسامتها الطيبة ورغم أنها كانت ترتدي ذات الزى وذات القبعة كغيرها من الزملاء والزميلات ، وكانت بالتأكيد بيننا وإلا لما ظهرت في 
الصورة ، إلا أن أحدا ربما لم يلحظها أو يشعر بها ، وهي توزع عنوانها على الزملاء والزميلات، سعيا إلى لقاء ما في المستقبل , وربما أيضا لاحظتُ يومها ، قصاصات ورقية صغيرة ملقاة على درجات سلم الكلية ، بعد انفضاض الجمع الغفير.
*********
تتابعت سنواتي صورة وراء صورة، التقت عيناي مصادفة بآخرها ، حين هممت بإغلاق كتاب الصور ، تفحصت ، كيف لم أنتبه يا الهي ، ولدهشتي ، كانت هي الصورة الوحيدة التي لم أجد ذات الوجه الطفولي المبتسم في ود ، في مكانها الأثير في خلفيتها عند حافة الإطار محاولة الظهور بأي ثمن ، بل كانت إلى جانبي في صدر المشهد، وابتسامة البهجة والثقة تغمر ملامحها بجمال فريد،ممسكة بباقة من الزهور اعتادت الفتيات أن يمسكنها في ليلة زفافهن السعيد. وها هو العمر أحفظه بين دفتي كتاب ثقيل مغبر ، مدفون بين كتب عديدة في خلفية المكتبة الخشبية العتيقة، وفوق الجدار المواجه لي ، وجهها ، يتوسط صورتها الكبيرة ، التي يحيط بركن علوي من إطارها ، شريط أسود عريض.






***********************


***********************

إعلان في أسفل التدوينة

اتصل بنا

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *