ما يشبه البيان الشعري
(عراقية القصيدة)
د. أحمد جارالله ياسين
إن التجربة الشعرية العراقية منذ تسعينيات القرن
المنصرم وحتى الآن تعيش حالة مرجعية واقعية خاصة وفريدة لم تعشها أية تجربة شعرية
عربية أو عالمية أخرى لذا فان هذه التجربة لا مفر لها من التأثر فنيا بإفرازات تلك
الحالة وتفعيل دور مؤثراتها المرجعية لتسهم في رسم الملامح الجديدة للقصيدة
العراقية المعاصرة .
إن مما يميز المرجعية الواقعية لتلك القصيدة
كونها شعرية بالأصل إلى حد كبير في تفاصيلها اليومية , وربما ليست بحاجة للانزياح
المجازي في صورها ودلالاتها الفنية حين تصاغ بواسطة الألفاظ نظرا لسمات الشعرية
الماثلة في تلك النواحي لاسيما المتمثلة بالمفارقة , واللامعقولية, والسخرية
,والفانتازيا , والكوميديا السوداء ...., بفعل الأحداث الكبيرة المتتالية التي مرت
بها كالحروب والنزاعات الداخلية والحصارات والتي انزاحت بمكونات الواقع السياسية
والاجتماعية والاقتصادية والفكرية والإنسانية ...نحو أبعاد غير منطقية وأوضاع ربما
كاريكاتيرية ساخرة على الرغم من نتائجها المأساوية على الإنسان العراقي لاسيما
المهمش ...ومن نماذجه الشاعر الذي تهمش دوره وتراجعت مكانته بوصفه مثقفا, في بيئة
اضطر فيها الإنسان - مجبرا - إلى البحث عن رغيف خبز ودواء للحفاظ – في الأقل - على
جسد كامل لم يتناثر في إحدى الحروب أو في احد المستشفيات الخاوية إلا من جرعة
الموت ..بدلا من البحث عن كتاب أو ديوان شعر ..
إذن..ماذا يفعل الشاعر في مواجهة هذا الخراب
المادي والمعنوي الهائل الذي إن لم يطارده أو يقتله فانه يحاصره .. ليقتله أيضا
لكن بطريقة أبطأ ؟هل سيبقى الشاعر متزنا في وعيه الفني ويسير فنيا على آثار من
سبقوه ليعبر عن التجارب الجديدة الفنتازية التي يمر بها يوميا ..وهل يستطيع فعل
ذلك بصدق فني إن سار على ذلك النهج ؟؟ واتبع نصائح المرزوقي أو نازك الملائكة ؟وهل
فسحت له تجربته القاسية المحتدمة المجال للتفكير والاختيار التقليدي لما يناسبه من
أدوات وأساليب فنية وترك ما لا يناسبه؟؟ هل يبقى الشعر- أمامه - هو القول الموزون المقفى
بأناقة فحسب ..أم انه قد ينفلت من هذا الطوق ليفتش بطريقة غجرية عن شعريته بحرية
في واقع مضطرب غير مقفى بقافية واحدة ..بل قد لا يقفى أبدا..ويبقى بنهايات مفتوحة
..فلا الحروب تنتهي بقافية السلام ولا الجوع يقفى كرشه الهائلة برغيف كامل.. ولا
الخوف توقف عن الارتعاش في ظل وعود خيالية بالأمان.. ولا الحرمان ذبل أو جف دمعه
..ومن خرج من الحرب الفلانية بساق واحدة فان عذاباته لن تنتهي وتقفى بقدم اصطناعية
يخجل منها أمام أطفاله, لان ثمة شظية أخرى من حرب أخرى عابرة أو خاطئة..أو
مفاجئة.. ستأتي وتقطف الساق الثانية ..ولن تنتهي العذابات ..فثمة ....وثمة ...
ووسط تلك الأجواء الشعرية أصلا يمكن لعين الشاعر
مثلا أن تنتقل حقيقة في لحظة شعرية واحدة من رؤية الحاسوب – احدث تقنيات الحضارة
المعاصرة - إلى رؤية الفانوس – أقدم تقنيات العصور القديمة – ترى أية فوضى هذه
التي تتكرر يوميا منذ أكثر من عقدين ؟؟ ألا يصاب الشاعر بشيء منها ؟؟كما أن
الإنسان المفقود في حرب ما أو الذي كان في عداد موتاها قد يعود لأسرته ليجدها قد
تفككت ثم يكتشف استشهاد ابنه في حرب أخرى غير التي فقد هو فيها حين تركه طفلا يزحف
على الأرض ويتوسل به أن يبقى .. لكن هذا الوطن الشعري لم يكن يسمح له بالبقاء فثمة
طابور طويل من الأعداء يجب صدهم .. فنحن الذين اخترعنا الكتابة والعجلة وربما
العلكة ويجب أن ندفع ثمن ذلك الآن.. والى الأبد !!.. وأول الثمن أن لانكتب ولا
نقرأ وننشغل منذ الصباح حتى المساء يوميا في البحث عن الطماطم والأسبرين وحفاري
القبور.. والأمثلة لا تعد ولا تحصى على الطبيعة العجائبية الشعرية للمكونات
الواقعية المغذية لتلك المرجعية العراقية , وهكذا فان القصيدة العراقية بعد تلك
الصدمات الكبيرة أخذت تعيد تشكيل أثاث بيتها الفني وترتبه بشكل جديد يستطيع احتواء
تلك المتغيرات ..والبحث عن أساليب جديدة في صناعة شعريتها لاسيما أنها بالأصل –
وكما قلنا - تواجه في البداية مرجعية واقعية شعرية بنفسها...
إن مثل هذه القصيدة ليست بحاجة إلى أنموذج سابق
عليها لتقتدي به ,وتؤرقها عقدة تقليده أو تجاوزه إنها تصنع أنموذجها الخاص في كل
قصيدة جديدة , لم نعد نرى تلك المجموعة الشعرية التي تقدم قصائد متعددة لكنها ذات
طابع فني عام واحد , فكل قصيدة ربما تبدو باسلوبها لاعلاقة لها فنيا بالأخرى التي
تجاورها في الصفحة المقابلة لها ..وربما يتكرر الموضوع لكن الأشكال قد تختلف
وبسب حجم الزلازل الكبيرة التي مرت بها التجربة
الحياتية الواقعية للشاعر العراقي.. فان الشعراء لم يعد يشغلهم الجدل السوفسطائي
حول ضرورة الوزن والقافية في تشكيل البنية الفنية للقصيدة .. فقد أصبح لكل قصيدة
إيقاعها الخاص بها وليس ضرورة أن يكون عروضيا لمجاملة متلق كسول تقليدي من عصر
الوسادة الخالية تعود على مثل هذا الأفق الإيقاعي أو ذاك ..ولايعني هذا التقليل من
شأن الإيقاع العروضي المهم في الشعر لكنه تأكيد على حرية اختيار إيقاعات أخرى غير
عروضية تخضع في النهاية للمبدأ العام للإيقاع وهو التكرار ,سواء كانت وحداته
المكررة عروضية أم ليست كذلك ...
المأساة اليومية الكبيرة للشاعر العراقي الواعي
جعلته لايلتفت لمثل هذا الجدل الذي يراه طبيعيا بقدر التفاته للرغبة الصادقة في
التعبير الشعري الحر عن اللحظات الشعرية التي يمر بها يوميا وهو يستميت من أجل
البقاء تحت سماء تكتظ بالرصاص والشظايا والعويل ... ولا ايقاع واحد يشغلها فمرة
يكتب شعرا موزونا مقفى ..وأخرى يكتب شعرا ..وكفى ..
الذائقة المتلقية سترضخ لمثل هذا الشعر الأخير
لأنها ستنشغل بمتعة تذوق صوره العجيبة الغريبة ..وستستأنس بلغته الشعرية المعبرة
عما تعيشه مرجعيا تلك الذائقة المصدومة والمهيأة بفعل ذلك لتلقي صدمات أخرى فنية
في الشعر مادام هدفه التعبير عنها .. وعن عصرها ..وليس عن عصور أخرى كانت السماء
فيها صافية زرقاء ..مطرزة بالنوارس ..وليس بالرصاص والدخان ونثار من أنسجة اللحم
البشري المتفحم ..مثل سماء اليوم ...
من الأفضل لشعراء هذا الجيل أن لايغادروا تلك
المرجعية العراقية الواقعية لتنطلق منها رؤاهم وقصائدهم وتجاربهم الفنية ..فذلك
أفضل من الهروب إلى التاريخ البعيد لاسيما العراقي القديم أيا كانت مبررات هذا
الهروب التي قد يقدمها بعضهم تحت ذريعة الحاجة لاستنساخ الرمز والأسطورة والقناع
والحكاية والحكمة ... وغير ذلك من المسائل التي باتت اليوم تغرب القصيدة العراقية
وتزجها في علاقة انفصال مع القارئ ..لان القارئ اليوم مثقل بالهم المأساوي الواقعي
وهو يبحث عمن يتكلم عن أسطورة بقائه على قيد الحياة حتى هذه اللحظة على الرغم من
الحروب التي مرت عرباتها المصفحة على جسده ..وهو يبحث عمن يعبر عن صفة المهٍٍٍَِمش
وأبعادها الرمزية الإنسانية العالقة به منذ أول طابور وقف فيه على الرصيف مهمشا
أمام سلطة البقال .., وحرارة الشمس.. بانتظار نصف حصة من الطحين المغبر وملعقة من
زيت الطعام وموس واحد للحلاقة يشذب به لحية أحزانه الطويلة ...الممتدة إلى ابنه
الباكي بانتظار قطرة من حليب الأمم المنتحرة ... ولعبة بالية من سلة مهملات الغرب
..أية سلطة للشاعر أمام عريف أمي يصلبه لساعات تحت شمس لاتغيب...من أجل تدريبه على
الطاعة ..ومتى كان الشاعر مطيعا !!أو قابلا للتدجين !!
من المنصف أن يتغير دور البطولة في هذه القصيدة
..فيكون (المهمشون) أبطالها ..ويغيب عنها ممن هم في المتن ...الذين اغتصبوا أكثر
من نصف ثروة الشعر العربي..لاسيما في قصائد المديح.. فقصيدتنا هي قصيدة الإنسان
العادي , المتألم , المتأزم , المحبط ،ابن الرصيف وليس ابن البلاط.. والمقموع منذ
ولادته .. لكنه المصر على الحياة أيا كان الثمن .....لأنها حق من حقوقه البسيطة
التي منحها له الله تعالى .
المتلقي العراقي اليوم يعيش أسطورته اليومية
الخيالية مع الموت العجائبي والدمار الغرائبي والحروب والخوف الممنتج والجوع
والتشرد والنفي باشكاله كلها الداخلية والخارجية ..فهو بحاجة إلى عيون الحاضر ..
وليس بحاجة إلى عيون الماضي وأساطيره كي يتقنع بها ليقرأحاضره المشعرن ..المؤسطر
بحد ذاته .
ولان الشعر لابد أن يقول شيئا ..ويعني آخر
...ولكي لايصطدم في الوقت نفسه مع مايمنعه من القول ,فان القصيدة مالت أحيانا إلى
الاختصار في حجمها البصري حتى تحولت إلى برقية صغيرة جدا لاتلفت الانتباه إلى
قوتها الدلالية إلا لمن يبحث عن آثار لدغتها الدلالية المدهشة فيما وراء كلماتها
المعدودة ...وإن اتسعت الرغبة بالبوح فان القصيدة العراقية تنفتح على الفنون
الأخرى لاسيما السردية لتتداخل مع تقنياتها وتفيد منها في تدعيم بنيتها الشعرية
..الملحمية بطريقتها الخاصة..التي تذوب الدلالات في طياتها المتموجة ..
ونالت الصورة الشعرية في القصيدة العمودية
اهتماما خاصا سلب من أذن المتلقي جاذبية الإيقاع العروضي الصوتي بعدما شغلته
الصورة بجدتها وعنصر الإدهاش المبثوث في اسلوب تشكيلها والدلالات المنبعثة
منه..وبذلك اقتربت القصيدة العمودية من الأشكال الشعرية الأخرى ..كالشعر الحر
وقصيدة النثر .. التي تشتغل على الأسلوب السابق نفسه ..
لعل مايشغل المتلقي العراقي الآن هو النص الذي
يعبر عنه ..النص الذي لاينفصم عن حياته اليومية المأساوية..والنص الذي لايزجه في
هلوسات الذات وأمراضها النفسية..لا نقول يجب.. لكن من الأفضل أن نساعد هذا المتلقي
على تغيير أفق تلقيه للشعر ..وأول خطوة نحو ذلك ..أن نثقفه بالمتغيرات التي حدثت
في بنية الشعر ..و أن نبعده عن التعصب غير الواعي لشكل شعري دون آخر..ومن الأفضل
أن يتقبل الأشكال كلها ..مادامت تعبر شعريا عن مرجعيات واقعه اليومية .. وتحترم
ذائقته ..ولا تزجه في فضاءات غريبة عنه..وتتعالى عليه ..
والأمر نفسه ينطبق على الشعراء أنفسهم ..لان
التجربة الشعرية لجيل ما ليست لوحة واحدة ..وإنما هي مشهد واسع يتقبل التنوع
..وهذا مما يساعد على توحيد الجهود الشعرية لمجمل الشعراء..وتنظيم فعالياتهم
الشعرية تحت أفق لانهاية له اسمه المحبة..واعني العراق.. واقصد الشعر...
من خاتمة مجموعتي (( الى ...برقيات وصلت متاخرة
))
د. احمد جارالله ياسين
جامعة الموصل / العراق