مفتاح العلواني:
أدعى مفتاح…
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أدعى مفتاح.. أسمتني ابنةُ
عمي على اسم عمي رحمه الله.. كرهتُ اسمي زمناً ثم أحببتهُ عندما قالت لي فتاةٌ في
الثانويةِ أحببتها لمدة أسبوع: (اللي يحلّوا بيه البيبان.. انشالله يقسم يا حبّان)
فتحوّل اسمي لـ شتاوةٍ.. لكنّها تركتني بعدها وأحبّت شخصاً يمكن أن يجلب لها
الهدايا !!..
لا يهُم.. ما دمتُ لا
أزال أفتح الأبواب.
أوّل رسالةٍ غرامية
وصلتني كانت في الصف الرابع الإبتدائي!! كان اسمُها (مريم) ولا أذكرُ من الرسالةِ
الآن سوى: (m+m= حب.. وأنها كانت لا تنام الليل دون أن تفكرَ فيّ).. لففتُ
الرسالةَ منتشياً وذهبتُ بعد المدرسة ونِمت.. في المساء استيقظتُ على صوتِ قهقهاتِ
إخوتي.. قال لي أحدهم وهو يمسك بطنه ضاحكاً: ”تعال تعال يا m+m عرّفنا على
سعيدة الحظ)“.. فعرفتُ أن أمي وجدت
الرسالة وهي تغسل بنطولني.. من حينها وأنا أمزّق الرسائل عند باب المدرسة.. لكن
أخي للآن وكلما قلتُ شعراً يتنهد قائلاً: آه يا مريم يا m !!
معلمتي في الإبتدائية
جارتنا.. من عائلة غنية.. كانت تكرهني.. تقول: (إذا أتيت بهذا المعطف المهترئ غداً
سأضربُك).. وأنا لا أملكُ غيره.. وخشية أن أخبر إخوتي فتحدث مشكلة كنت أخلعه قرب
باب المدرسة وأخبّئُه.. أرتعد في الصف برداً لكنني أبتسم لأنها لن تضربني.. حتى
إذا خرجت عانقتُ معطفي كثيراً وركضت.
لا أدري لماذا أخبركم
بهذه القصة.. ربما لأنني التقيت تلك المعلمة بعد خمس وعشرين سنة مصادفةً.. عرفتها
ولم تتعرف علي.. لكنها كانت ترتدي معطفاً مهترئاً.. لم أطل النظر لها.. لكنني شعرت
بذات لسعة البرد تلك بالصف رغم معطفي الثقيل !!
مات أبي وأنا لازلتُ
أقضمُ أظافري.. وأتهيّأ للحياةِ البائسة!! مات عندما كنتُ أرى كل الناس أقصرَ
منه.. بكيتُ كثيراً وانتحبت لأجل أن يعود
لكنّه لم يعُد.. كَانَ بسِيطاً..
وكنتُ أحلمُ كَثيراً وكلما حدّثتهُ عنْ حُلمٍ كانَ يبكِى.. ثُم يُسرّ لِي أن
سَيبيعُ نَعجةً من نِعاجهِ العَشرة ويشتري لي حلماً.. مرةً قلتُ له أنّي أريد درّاجة لأبتعد عن بيتنا
فابتسم.. ثم رأَيتُ صرخةً تتدحرجُ من صدره.. لم يبكِ حينَها.. لكِنه ابتعد عن
البيت بلا درّاجة وتركني.. مات أبي.. ولم أحلم بعدها.. لكنّني كلما رأيت درّاجة أَبتسمُ كما فعل وتَدحرجت ذات الصرخة من
صدري.
أمي امرأة عتيقة.. لا
تقرأُ و لا تكتُب ولا تعرف من هو الجاحظ ولا لمَ حرق نيرون روما.. لا تقرِض
الشِعر.. لكنّها عندما يهيم بي الفرحُ تستحيلُ موشحاتٍ وقصائد.. وتقف بيني وبين
سهام الهم كدعاءٍ مصفّح.. هذه (رابحةُ) أمي.. تُحدثني عن الحمار الذي رفسها في
صدرها وهي صغيرة.. صدرها الذي أتكئ عليه كلما رفسني الزمان.. لا أساوم عليها
امرأةً من العالمين.
لي سبعة إخوةٍ وأنا
ثامنهم.. نقفُ طابوراً واحداً.. إذا همّ واحدنا بالسقوط استحالوا كلهم كتفاً
وأسندوه.
لي ستّ أخواتٍ أرتديهن
كعـقد .. يحرُسن روحي من التهدّم.. يقُلنَ أنني سيد قلوبهن.. وأنا أتّشح سيفي
كلّما اقترب منهن حزنٌ قطعتُ رأسه.
أحب الشِعر.. إنه
يشعرُني بإنسانيتي.. أقرأ القصيدةَ كأنما أتحدث إلى قائلها.. ولا أحفظ القصائد
عادةً !! أشعر أن حفظها يغيّب عني بعض جمالها لو قرأتها مجدداً.
أحب البحر أيضاً.. ليس
ذاك الحب الذي يتحدث به الناس.. لكنني حقاً أحضنه كلما زرته.. وحين أنغمسُ في
عمقِهِ وألاحق أسماكه أشعر به يداعب ظهري.. يقول: لا تثق بي يمكنني أن أقتلك إذا
جازفت.. لكنه للآن وهو يصافح جسدي ويبتسم.
ولكن ما أحبّه أكثر من ذلك
بكثير هي امرأة تفصلني عنها مسافة ساعات قليلة.. ويربطني بها ما لا يُحصى من
الوَجْد والشوق.. لم نلتقِ غير مرةٍ واحدة.. من يومها وأنا ألتقيها بقلبي كل
ساعةً.. امرأةٌ تبدو سبيلاً !! وأنا الذي كنتُ قبلها متاهات.. لا أذكر كيف أحببتها
تحديداً.. لكنني أذكر وهي تبتسم أن قلتُ لها أحبكِ يا امرأة فاستحالت سحابة..
واستحلتُ أنا أرضاً تستقبل غيثها.. من حينها وكلّما ضاقت عليّ الأرض بما رحُبت
قلتُ لها ابتسمي.. تتصل في المساء غاضبةً
تقول: ما بالك يا رجُل افتح هاتفك افتحهُ لأجلي.. لأجل روحي.. لأجل أن
أرسلها لك في الصباح تُقبّل جبينك.. وأنتظر أنا لتُفرغ غضبها فأقول: جميلة وأنتِ
غاضبةٌ.. فتسيل من سماعة الهاتف على شكل ورد…
شاعرة.. ترسلُ لي
الحنين قصائد.. تقول: (انحبك يا راجل .. انحبك وماني قادرة نصبر عليك ).. فأشعر
أنني نوتة في كل هذا النشاز..
يحدثُ أن تُحب امرأةً
بئراً
كأنما روحك كانت سيولاً
واستقرّت
بـ قَعرِها !!
أنا الآن لا أعرفُ إلا
طريقها.. لذلك وكلّما سألني أحد عن منزلي
وصفتُ له وجهها !!
أدعى مفتاح…
للآن كلّ الذين وصلوا
إليّ على شكل موجٍ تراجعوا.. وأنا أقفُ كشاطئ حزين لم أجرؤ مرةً على التشبّث
بأحدهم !!
لا شيءَ يمكنُ أن
يُشعرني بالفرحِ كالتفاصيل!! التفاصيلُ التي لا يمكن أن تغفلَ عنها الروح النقية
الجميلة.. التفاصيلُ التي قد تكمُنُ في الومضات.. في زوايا الأيام.. في عفويات
الكلام.. في آخر رشفةٍ تحاول الحصول عليها من فنجان قهوتك.. في سطر باذخ الجمال
يقع في منتصف روايةٍ مملة.. لذلك دائماً ما أستمتع بما خفي عن النظر و رآه القلب.
أحب أن أعتذر لكل شيء..
للّيالي التي كنتُ أظنّها تطولُ عمداً.. للدمعِ الذي لم أذرفهُ بعدُ.. ليدي التي
ما انفكّت تلوّح.. للصباحاتِ التي كانت تظنّني بخيرٍ لأنّنيأبتسم.. للابتسامات أيضاً لأنّني كنتُ أغافلها
وأبكي.. للطرقِ التي لم أطأها وأنا تائه.. للكلامِ الذي كان يجبُ أن يُقال..
للصمتِ الذي فُسّر بألفِ معنى بعيداً عن معناه.. للأوغاد الذين لم أخبرهُم أنهم
قذارةُ هذا العالم.. لفراشي الذي يحملُ جثتي المسمومة كل هذاالوقت.. للاعتذارات
التي احتاجت اعتذارات.. للمواعيد التي وصلتها متأخراً بقصد وبلا قصد..
لأيّامي وأنا أحفرُ أمامها كي تسير في خط
واحد..
لروحي
لكم
للأدب الذي ينعشنا…
مفتاح العلواني
السقيفة الليبية،
الإثنين eleven نوفمبر 2019