من اجمل ما قرأت عن فيروز والرحابنة
أنا وفيروز والزمن طويل (1)
خطيب بدلة
بتشوف
منذ زمن طويل وأنا أتحين الفرص
لكتابة هذه السلسلة من الأحاديث عن (أيقونتنا) شامة الزمن العربي المعاصر السيدة
فيروز. ولئلا يزعل مني الصديق الأستاذ غازي أبو عقل أسارع إلى التوضيح بأنني لن
أنسى، ولن أتجاهل الإبداعَ العظيم للرحبانيين عاصي ومنصور اللذين رفعا بنيان هذه
الظاهرة الشامخ، وأضيف إليهما، على مسؤوليتي، المبدع الكبير، الساخر الكبير، زياد
الرحباني.
سأبدأ حديثي بفكرة أنتم- أقصد أعزائي
القراء- تعرفونها جيداً: وهي أن الواحد منا يكون ماشياً على قدميه في شارع ما، أو
راكباً في إحدى وسائط النقل، أو جالساً في مكان ما، فيتناهى إلى مسمعيه صوت أغنية
فيروزية، وسرعان ما يجد نفسه مشدوداً إليها، منسجماً مع لحنها العذب، مستمتعاً
بالتناغم المدهش بين لحنها وكلماتها وأداء فيروز الاستثنائي لها.. وبعد قليل تتحرك
شفتاه بترديد بعض كلماتها، ولكنه يفاجأ بأنه يجهل القسم الأكبر من هذه الكلمات،
ويتساءل:
- يا ترى، أنا كنت أحفظ هذه الكلمات
ونسيتها فجأة؟.. أم أنني في الأساس لا أعرفها جيداً؟
ويأتيه الجواب بأن القسم الثاني من السؤال
هو الصحيح، أي أنه لم يسبق له أن حفظ كلمات أغنية فيروزية بالكامل، ولم يسبق له،
من جهة أخرى، أن تَفَكَّرَ بكلماتها، فإذا فعل ذلك، كما فعلتُ أنا الآن، سيندهش من
كونها، أي الكلمات، على بساطتها، أشعاراً لا تكفي كلمة (عظيمة) لوصفها، فهي أكثر
من ذلك بكثير.
في هذه المحطة الأولى اخترت لكم أغنية
فيروزية قديمة تحمل عنوان (بتشوف) كتب كلماتها ولحّنها الأخوان عاصي ومنصور
الرحباني، وتبدأ بموال صغير يتألف من أربعة مقاطع هو التالي:
بحياة عينَك يا ورد نيسان زَهِّر على شباكن العشقان
وان كان بدن يسألوا عنا
جيران.. قلن بعدنـا جيران
المدهش هنا هو مخاطبة الورد على أنه
كائن بشري له عينان، تستعطفه المغنية كما تستعطف الأم ابنها الصغير، أو ابن
الجيران حينما تريد أن تطلب منه تأدية خدمة صغيرة، بعبارة (بحياة عينَك).. وما هي
هذه الخدمة؟ هي أن (يُزَهِّرَ) على شباكهم.. وكأن الإزهار فعلٌ إرادي يقوم به
الزهر متى شاء.. وهذا الشباك ما صفته البارزة؟ إنه شباك عشقان!
إن هذه القصيدة المكتوبة باللغة المحكية،
وأنا- محسوبكم- أسميها "قصيدة" من دون أي تردُّد أو تلكُّؤ أو تذمُّر،
تبدأ بهذه اللغة العامرة بالعوامل البلاغية، ثم تبدأ وتيرة الشعر بالارتفاع على
نحو احتفالي غير مسبوق، لا في الشعر العربي، ولا في الغناء العربي، ولا حتى في
النثر العربي، فتقول:
(بِتْشوفْ بكرا بِتْشوفْ - شو دارنا
حلْوي- عَ مْطَلّ أخضر مكشوف- والشمس بْتِضوي- فْراشات بِتْجينا رْفوف- وطْيور
تِقْصِدْنا ضْيوف- وغْصون ترْقُص وتْغَنّي- بِتْشوفْ بكرا بِتْشوفْ).
ملاحظة أولى: الحمام يطير ضمن رفوف،
وكذلك الزرازير، والسمرمر، والسنونو، وأما الفراشات فلا تأتي على شكل رفوف، لا بل
قلّما يعثر الإنسان على فراشتين تطيران على نحو متقارب.. من هنا تصل بلاغة الصورة
إلى أوجها.
ملاحظة ثانية: هل تفكّرتم في الطيور
التي تقصد الناس على هيئة ضيوف؟
ملاحظة ثالثة: وأما الطيور التي ترقص
وتغني فهي من أعاجيب هذه القصيدة الرحبانية.
تعالوا نقرأ تتمة كلمات القصيدة:
وإنْت بتْطِلّ- ونْقِلَّك أهلا-
وْهَيك تْغِلّ- نسْمِة عَلَى مَهْلا- وعْيونْنّا تْرِفّ وتِحْكي- وقْلوبْنا تْبوح
وتِشْكي- ومْروج بالحب تْطُّوف- بِتْشوفْ بكرا بِتْشوفْ.
فَوقْ شو هَمّ - منْعيش بْجَنّي-
وشوق يْلِمّ- نَهْدات ويْغَنّي- وعْبَاب خَضْرة مِحْنِيِّة- عَ قْبَاب متْل
العِلِّية- وبْورْد سَطْحا مسْقوفْ- بِتْشوفْ بكرا بِتْشوفْ.
وْهاك الدّني الغضَّة- بتْضّلّ
حِلْياني- فيها الهوى بْيِمْضى- أحلام وغْناني- والحبّ فَوق دْواليها- عْناقيد
حِليانِة فيها- وْمافي واحد مَقْطوف- بِتْشوفْ بكرا بِتْشوفْ.
ملاحظة رابعة: هل رأيتم، أو سمعتم، أو
قرأتم، بالفصيحة أو بالمحكية، عن "مروج تطوف بالحب، وقباب سطحها مسقوف
بالورد؟!
لا، بالتأكيد. ولكن الأغنية الفيروزية
فيها- كما يقولون- من هالحبق شتلات! وبتشوفوا.