أنا وفيروز والزمن طويل (2)
أنا وسهرانة
خطيب بدلة
قبل أن أدخل إلى عالم أغنية فيروز (أنا وسهرانة) التي اخترتُها لهذا المقرأ، وهي من كلمات وألحان العبقريين الكبيرين عاصي ومنصور الرحباني، أحب أن أقف قليلاً عند طبيعة الأغاني الفيروزية، بشكل عام.
تنتمي الأغاني الفيروزية الرحبانية، في معظمها، إلى
الشعر، بل إلى الشعر الحديث تحديداً.. لأنها، في الواقع، تُجري قطيعة نهائية مع
نمط الأغنية العربية الكلاسيكية القديمة التي تقوم على ثناية العاشق والمعشوق
اللذين يتبادلان- عبر الغناء- كلمات الغزل، والأشواق، والعتاب، وأحياناً يصلان إلى
تخوم الحب والوصال، ولكن.. يبقى حبهما وكأنه معزول عن العالم بأسره.
ليس هذا وحسب، بل إن الصعوبات والمعوقات التي تظهر
للحبيبين- في النمط القديم- لا تعدو كونها منغصّات لهما، من قبيل مراقبة الأهل،
وكيد العواذل، وحسد الرجال للعاشق وضيق أعينهم منه لأنه وقع على هذه الدرة
الفريدة، وحسد البنات للعاشقة وضيق أعينهن منها لأن حظها الذي يفلق الصخر أوصلها
إلى هذا الفتى الوسيم النادر الخصال، وهذا كله يؤدي إلى الفراق و(البعاد)، ويستتبع
ذلك الشيء الكثير من الألم، والوجد، والسهر، والبكاء، والآهات، والحسرات، والتقلبات
على نيران الجوى.
وأما القصيدة الرحبانية الفيروزية فلا تكتفي بانتمائها
إلى الشعر، بل إنها تتحول، في كثير من الأحيان، إلى قصة شعرية متكاملة.. كما في
أغنية "أنا وسهرانة" التي نحن بصددها..
إن العاشقة المغنية في هذه القصة/ القصيدة قد وضعت
نفسها، أو ربما وضعتها الظروف، ضمن حالة عشق مثالية للغاية، فهي تسهر في البيت
وحدها، (أنا وْسِهْرانِة- وحْدي بالبيت) والصمت مطبق على المكان (على
السِّكّيْت).. لا بل إن عبارة (على السِّكَّيْت) توحي بأن الصمت كان مقصوداً، بل
ومرتّباً بفعل فاعل.
وفي هذه الحالة تكون روح الإنسان مستنفرة، وأذناه
تلتقطان أصغر صوت أو نأمة. ولكن، وبسبب امتداد هذه الحالة طويلاً، فقد أصاب
العاشقةَ نوعٌ من الضجر. غير أن الضجر لا يمكن أن يسيطر عليها على نحو كامل،
باعتبار أنها مستنفرةُ المشاعر، لذلك لم تقل (ضِجْرانِة) بل قالت: (وْمِتْل
الضِّجْرانِة).. أو كما يقول فطاحل العربية: إلى حد ما.
إلى هنا والقصة الشعرية ما تزال في حالة كمون. ولكن أرجو
أن تلاحظوا أن الشاعرين الكبيرين اللذين أبدعا القصيدة كانا بارعين إلى درجة أنهما
وصفا الحالة كلها بثماني كلمات فقط هي: (أنا وْسِهْرانِة- وَحْدي بالبيت- على
السِّكَّيْت- وْمِتْل الضِّجْرانِة).. بعدها، وعلى نحو مفاجىء يحصل اختراق للسكون،
والعاشقة تسمع صوتَ (مَشْيِة قريبِة- طَقِّتْ عَ الدّرْب). فتفرح، وتسارع إلى زفّ
البشرى لقلبها، والقلب هنا هو العضو الإنساني النبيل الذي ينسب إليه القيام
بتدابير الحب، وتخبره أن حبيبها الذي ربما كانت تنتظره، أو تتوقع حضوره من دون
موعد، قد أتى. (قِلِتْ يا قلْب- جايي حبيبي).
ههنا تبادر، بسرعة أو ربما بأناة، إلى إجراء سلسلة من
الحركات التي لا بد منها لتسهيل دخول الحبيب إلى البيت. (قِمْت وْضوَّيْت- زِحْت
البردايِة). لماذا أزاحتها؟ العاشقة تجيب، أو توضح، أنها فعلت ذلك لكي يراها
الحبيب الذي تحسب هي أو تتوهم أنه قادم.
ومع أنها لم تتأكد من أن أحداً ما قادم، ومِنْ أن هذا
القادم هو حبيبها، فهي تستنفر، بل وترفع استنفارها إلى حدود الجاهزية القصوى، إذ
تجري عدة حركات سريعة، ومدربة، ومتقنة، بدافع الحب طبعاً، فتقول: (شَعْشَعْت
البيت- رتّبْت المَزْهَريِّي- هَيَّيْت قْلوب السّكَّرْ- حَطَّيْت الشّال عْلَيّي-
ولْبِسْت العقد الأحمر).
ههنا تبلغ القصة الشعرية ذروتها استعداداً للدخول في
النهاية، أو القفلة:
(ونْطَرْت الباب- تَـ الباب يْدِقّْ- والقلب يْدِقّْ-
وْما دقّ الباب- والْمَشيِة بِعْدِتْ- بِعْدِتْ بالليل- مَحَاها الليل- بِعْدِت
وْبِعْدِتْ).
ولكن ما هي هذه القفلة؟ وهل هي عظيمة متناغمة مع الحدث
الرئيسي للقصة؟
برأيي: نعم. وأرجو أن تلاحظوا أن العاشقة هنا لم تمت،
ولم تنتحر، بل إن الحياة في عالمها تستمر.. فالقصة تختتم على النحو الآتي:
أنا وْسِهْرانِة- وطْفِيت الضّو- وْطِلِع الضّو- أنا
وْسِهْرانِة!