الشاعر الصديق
محمد سعيد حسين
/باقة حنين/
كم أذكر يا جدّ، أنا الّذي لا ذاكرة لي،
ذلك اليوم الّذي باغتتّني فيه، أختلسُ النّظرَ إلى ذلك الثّقب الأسودِ،
الثقبِ الأسودِ الغامضِ،
الثقبِ الأسودِ الصغيرِ الغامضِ،
الّذي أحدثَتْه الصّدْفَةُ، على قمّة هرم
قميصِها المنتفخ جيداً أعلى الصدر، انتفاخ يليق تماماً بنهدين جاهزين للتّداول!.
وتلك الحمامة تسفحُ هديلَها على صمتِ
نافذتي؛ غير عابئةٍ بخطيئتي المبتكرة
النافذةِ ذاتِها التي شهِدَتْ آخر إطلالةٍ
لكَ على سنديانةٍ لطالما حيّرَني حبُّك العنيدُ لجذعِها الاسطوانيّ الضخم،
متسلّقاً دائم التصيّد لمتعةِ الشقاء.
أذكرُ جيّداً، ذلك العناقَ الأليمَ
بينهما، عصاكَ وعظام جسدي،
جسدي المبتدئِ في فنّ الذكورة آنذاك،
العناقَ الّذي جعلني أُفرِجُ لك عن باكورةِ مكاتيبي،
رسالةِ غرامٍ كتَبْتُها لفتاةٍ موجعةِ
الجمال،
خِلتُها تبتسمُ لي، آنَ شاهدْتُ صورتَها
شبهَ العاريةِ، ممدّدةً على صفحة جريدةٍ كانت تغلّف كيلو الهريسة* الّذي جلبْتَهُ
لنا ذات ثراءٍ، من مكانٍ بعيدٍ اسمه "المدينة".!
أذكر جيّداً، جيّداً جدّاً، عصاكَ التي
بدَأَتْ لعبةَ العناقِ مع عظامي،
قبلَ أنْ أؤمنَ بأوّل إلهٍ صادفْتُهُ آن
بلغتُ سنّ الخوف،
وقبل أن أركنَ بلادتي على ناصيةِ
التوّكّل،
وقبلَ أنْ ينثرَ الحبّ غبارَ وشايتِه على
مرآة قلبي،
وقبلَ أن أُغرَمَ بمجانين عذرةَ وعشاقِها،
يتقيؤون بكاءَهم على مائدة الشّعر، نادبين أطلالَ رغَبَاتِهم الضّالّةِ على تخوم
عفّةٍ صمّاء،
وقبل أن يتطوّع أخي الكبير في الجيش،
كي يباهي بمسدّسٍ على خصره الأيمن،
وبنجمتين على كتفيه،
وبورقتين من فئة الـ "مائة
ليرة" تدفّئان جيبَه،
وقلبَ أمّي الطاعنَ في الشّقاء، ثمّ ما
لبثَ أنْ عادَ إلينا باسمِهِ الجديد "الشّهيد البطل"!
وقبل أن تغادرَ أمّي فراشَ قهرِها، لاحقةً
بريحِ ابنِها،
متّكئةً على دعاءٍ لم يُستجَب يوماً،
لصغيرها الشقيّ الّذي هو أنا،
أنْ تسدّدَ خُطاهُ نعمَةُ الإيمان، وآيةُ
التوفيق؛
أذكر جيداً يا جدّي، كيف انحنَتْ عصاك،
واستعادَ جذعُكَ استقامتَه،
آن تيقّنتَ أنني أصبحتُ أعرف كيف لشفة
امرأةٍ أن تصيرَ شراعاً،
وكيف لقُبلتي أن تكون ريحاً،
وكيف للنّهد أن يتكوّر بشبق الغواية،
ويتدوّر بلهيب الرغبة،
قبل أن يطلقَ حليبَ الحزنِ في شهوة
الأمومة، وكيف يمكن للأمومة أن تكون الوجهَ الآخرَ لرعشة الوصول!!
منذها..
لم تقترف يا جدّي سوى زنبقةٍ، وباقةِ حنين
وفخر، ودمعةٍ بحجم عشرينَ عاماً مضَتْ..
منذها..
أصبحتَ تركلُ ـ بضحكتِكَ المجلجلةِ ـ كرةَ
الهم، ثم تحتضن يداكَ المعروقتان وجهي، وتقول:
أشدّ الألم، فقدان الشّعور به..!!
نعم أذكر.. لازلت أذكر..
عشرون عاماً يا جدّي، وأنا أتعبّد في
محراب الحنين والذّكريات..
ويؤسفني أن أخبرك،
أنّني لم أختم سفر الحزن بعد..!!
من مجموعتي "كأني تنبّأتُ هذا
الوصول"
* - نوع من الحلوى الشعبية في سوريا