ماهر محمد
ربع ذاكرة..
من منا لا يمتلك ذاكرة،
كلنا يمتلك ذلك الشيء القابع بين جدران النسيان، منا من يمتلك ذاكرة كبيرة وأُخرى
صغيرة، منا من يمتلك ذاكرة مُمتلئة بشكلٍ دائمٍ، وكلما حاول أن يستعيد شيئاً منها،
نبّهه عقله الباطني برسالةٍ مفادها أن جزءً من الذاكرة معطوب أو كله لا فرق، منا
من لا يمتلك ذاكرةً من الأساس، يهيم في شوارع العقل مُتوّسلاً ذاكرة (لله يا
مُحسنين، ذاكرة حسنة تدفع عنك الجنون)، منا من يمتلك ذاكرة سمكة، كلما حاولت
السباحة فيها أو إليها، اصطادتها صنّارات غريبة ، مجهولة المصدر والهويّة..
حسناً، بما أنني في
الأربعين من العمر، وكما يقال عمر الكمال، فأنا أمتلك ربع ذاكرة، الربع الذي خاض
عشر سنواتٍ من الحرب، بكل تفاصيلها وتجليّاتها وتداعيات ما بعدها.
من يشتري ربع ذاكرة؟
من يبادلني بربع ربع
ذاكرةٍ لا حرب فيها، أريد أن أسترجع من فقدناهم، من لا نراهم
من ماتوا، من هاجروا،
وحتى من بقي هنا
أريد أن أعود إلى
الوراء، إلى البحر، قهوة النوفرة، إلى أبعد من ذلك، إلى الحارات القديمة الضيقة،
كرهت الأتوسترادات بأعمدة إنارتها وأشجارها، أريد أن أعود إلى السبع بلاطات، أن
أنصب مرمى بحجرين وأقف كحارسٍ أبلهٍ له متباهياً أمام فتاتي التي كانت تُطّل عليّ
من نافذتها، التعليلة (الليلة التي تسبق العرس)، الدبكة والأعراس، مصروفي اليومي
(نصف ليرة)، لا أريد شيئاً من أموال اليوم، لا أريد..
لم ولن يشتري مني أحد
ذاكرتي، فشلت كل محاولاتي مع الأطباء، لم يستطيعوا مساعدتي في هذا الأمر، قالوا
أنه خارج اختصاصهم.
في آخر محاولة يائسةٍ
مني، توّجهت إلى أقرب مستشفى، إلى ذلك الممرّ الذي في الأسفل، إلى برّاد الجثث
تحديداً
قلت : لربما لا يسعفني
إلا الموتى بعد أن فشل كل الأحياء، ليس لي إلا هذا المكان، أن أبادل ذاكرتي بذاكرة
جثة، مهما كانت العواقب من ما سأراه، مما رأه هو قبل أن يصبح جثة
حارس الأمن اللعين،
بلّغ عني
هنا.. قبضوا عليّ
هناك.. أعادوا ضبط
المصنع لذاكرتي
للأمانة.. أصبح لديّ
ذاكرة ستتذكرني هي لسنواتٍ طويلةٍ قد تصل إلى أن أصبح في ذلك الممرّ الذي في
الأسفل، إلى جثةٍ في برّاد يزورها رجلٌ مثلي يوماً ما بربع ذاكرة..