مها قربي
لن أهاجر
وقف فاغراً فاه...
يحك ظهره بجدار يستند إليه.
يلطم وجهه ضباب
معتق برائحة نفايات مبعثرة ..
يفرك يديه من قلق ...
وهو يراقب انكسار ظله عند قدميه ...
وهو يربت على كتف الأرض
محاولاًأن يقول لها:
أنتِ لي
إنني من ترابك
أريد أن أزرع جثتي فيكِ
أن تحتويني
مثل أمي
مثل حبيبتي
أضمك ..أتمرغ في لحظة الطين
لأقتفي أثري في دواخلك....
أثري الذي أضعته حين غافلني السراب وأنا أمشي نحوك ...
محاولاً التقاط كل ذبذبات السير
أمشي على حتفي في توقيت الهطول....
ظمآن منتظراً مواعيد الغيم...
ألتقي ...
بأقراني و أشباهي
بأشيائي وعائلتي تلوح من بعيد....
أستنفر مستور الكلام
وأعيده أنيناً
يندب تعثر الحب في زمن الحرب
وضياع الأمان
في وطنٍ يتوكأ على عصى الخواء
يستبيح الحزن من جوع وقهر
أبناؤه عادوا إلى زمن الرقيق
لا شيئ غير.....فضاء
وطنٌ يقطن في ندوب الروح
منذورٌ للوجع ....
وطنٌ ودّع حضوره الحضاري المغرق في الأوابد والزمن العتيق
وراح يستقبل الجثامين بلا أكفان
ويلقي عليها التحايا و التراب
تراكمت و تحللت ما بين أرقامٍ بلا أسماء .
وطنٌ لا يتقن إلا لغة الملح و يمتهن الحرائق .
قديماً قدسوا الأصنام
جعلوا القرابين على موائد الكهنة
وقالوا للعامة قدموها لتحميكم
وكانت الأصنام بكماء
وحدهم يتكلمون بإسمها
ألقوا الصغيرات في النهر لتتقدس أقدام الإله
وينعم الكهنة بالقرابين
و تستمر الرعية بتقديم الهبات.
صار الإله رصيناً عادلاً ورحيماً
فتحول الكهنوت محفلاً لمريدي السلطة وجامعي الأموال والهدايا
صارت الأضاحي تعمّد الأرض بالدم
فقالوا: دماؤكم من أجل أن يحيا الوطن كونوا ضحايا.
في الحكاية كان الوطن حجر النرد..
حين تمعن بالولاء للسلطة تنعم بالحظ ...
ويكون لك مقامٌ بين المبشرين بالنصر
وتنال البركة لتعيش آمناً سالماً منعماً....
أصبح الوطن (هم) وصرنا العبيد
ومن المحارم لم نكن يوماً
متن القصيد...
هم دائماً بيننا حد الفصل بين الظل والأصل
بين الأرض والمدى
بين العبد والمعبود
هم دائماً نسغٌ ثمين
ونحن صيدُ فرائسٍ
نتحدى ضيق اليسير
لنمتد في رحب العسير
تتقاذفنا رياح الخماسين والعشر العجاف
نحاول أن نمتد عميقاً مثل جذرٍ
وفي السماء مثل فرع
فوق التلال مثل ظل الشمس
علّنا نلتقي بأشباهنا
نجمع أشلاءنا....
نردد أناشيد الطفولة والحماسة
نحمل الأعلام والشارات
ونحاول رفوَ الذكريات الجميلة والممزقة..
ونقول :....لا زال الوطن لنا
أخلع سترة ستري
وألتف به ....
ليحتويني
فلازال لدينا بقيةُ أحلام فرّت من الهزائم والخسائر ...
ولازلنا رغم كل الصفعات
مع كل أشباهنا من الفقراء والتعساء
نسير في ركب الرهانات الضالعة بالفشل
المحتومة بالخداع
نتسمّر مثل شاهدةٍ على قبر
نرقب حضورهم وقد
جثموا على قلوبنا
سكنوا حناجرنا
ما غادرونا حتى... عنهم نهاجر
ولم نهاجر
ولن نهاجر
الأرض تسكننا ونسكنها
الهم نحمله ويحملنا
لن نكون حطب الحرائق
لن نهاجر...
لن أهاجر....
أيتها الأرض
يا سيدة الأمهات
عودني حبك أن السفر إليكِ وفيكِ
وأنا ...الليلة أقرب منكِ إليكِ
يا أرضاً أعرفها كما أعرف راحة كفي
ألتحفها، أشم عبقها، تمكث فيَّ
إفتحِ أبوابكِ للحلم وللحرية
لماذا ينتصرون عليكِ وفيكِ ؟؟؟
وأنتِ المولعة بقهر الفقراء
تعتصمين بصمت
تنتظرين بصمت
وتشتعلين...
ما كنتِ سبيل
ما كنتِ الحائط والمبكى
أنتِ يقين
أعلنُكِ المقصد حين الهجرة نحوك تعني فاتحة التاريخ
أعلنك وطناً يمشي على قدمين
يحكي
ينبض
يبكي
أعلنكِ روحاً لا يكسرها الوجع
ولا تجبرها القسوة أن ترحل
لن نهاجر
منكِ إليكِ
بلّغيها للكُل....
نحن ..الكل
والكل... وطنٌ للكل
وطنٌ يبقى
لا يرحل
لن أهاجر