يوسُف إدريس...المُحارِب
حامد حبيب
"إنَّ الكاتب
لاتختلف حياتُه أبدأ عن عمله الفنّى، كلاهُما مُنفتِحٌ على الآخَر،شديد الصلة به،
حتى لَيُفكِّر
فى أمورٍ كما لو كانت
حياتُه بطلاً من أبطالِه ، وكما لو
كانت قصَّتَه ، وإنّه
لَيُفكّر فى القصّة أو بطلِها أحياناً
كما لو كانت حياته
الواقعية التى يزاولها".
___________
*وُلدَ يوسف إدريس فى
التاسع عشر من شهر مايو
سنة ١٩٢٧م فى
قرية"البيروم"_مركز فاقوس بمحافظة الشرقية، حيث ُ الطبيعة الخصبة
المُحفّزة
للإبداع. كان والده
يعمل فى استصلاح الأراضي الزراعية، وكان يتنقّل كثيراً بحُكم عمله، فكان يترك
ابنه لجدّته فى
منزلها،عاش معها، وتفتّحت موهبته
وسط عالم خيالى صنعه
لنفسه، والذى كان له أثرٌ كبير فى صُنع آبداعاته .
*دفعته ظروف نشأته من
الحرمان العاطفى والمادى
أن يُحلّق فى عالم
الخيال كثيراً، باحثاً فيه عن إشباع حاجاته من المال والجاه.
* وهو فى العشرة من
عمره تقريباً، ساق له الحظُّ
كنزاً ثميناً من الكتب
فى منزل جدّته، كنزاً يحتوى على (٤٠٠ رواية جيب)، وحوالى(٢٠٠سلسلة )ل....
روكاميل وچونسون، وشوك
هولمز وطرزان،
ومجموعة من" ألف
ليلة وليلة" و"حديث عيسى بن هشام"، و"أبو زيد الهلالى"
وقصة "سيف بن ذى يزن" وغير ذلك..إذ يبدو أنّ جدّه كان من أولئك المغرمين
بالقراءة، واقتناء الكتب، ويبدو أن ذلك الجين انتقل من الجد للحفيد (يوسف)الذى
استطاع
قراءة تلك المجموعات فى
نحو ثلاث سنوات.
* لقد كانت أسرتُه
متوسطةَ الحال،فتعلّم فى المدارس الحكومية، والتحق بعد دراسته الثانوية
بكلية الطب/جامعة
القاهرة، وتخرج فيها عام١٩٥١م،
ثم حصل على دبلوم
الأمراض النفسية،ودبلوم الصحة العامة.
*بدأةحياتُه العملية فى
أحضان ثورة ١٩٥٢م، وكان أحد الذين ابتهجوا بتلك الثورة وباركوها، لكن لم
يدُم الودّ مع الثورة،
إذ سرعان ما أخذ يوجّه
انتقاداته لسياسة عبد
الناصر، فكان طبيعياً أن يُزَجَّ
به فى السجن سنة١٩٥٤م.
* تمرُّدُه على ثورة
١٩٥٢م، ظهر بشكل واضح على أبطال قصصه، كما فى "الندّاهة"..تمرّدوا على
واقع القرية وفرّوا إلى المدينةِ أملأ فى الخلاص من هذا
الواقع التقليدى.
* اهتمّ كثيراً بحالة
المثقّف فى بلاده، فكتب عن علاقة المثقَّف المصرى بالسلطة قبل الثورة،من خلال
روايته
القصيرة"العسكرى الاسود"..وماتفعله السلطة
بالمُثقّف ، من خلال
حالة شخص مثقف قبل دخوله المعتقَل وحاله بعد الخروج،من خلال شخصية
الدكتور (شوقى)السياسى
المتحمّس لأفكاره،فيدخل
المُعتقَل فى
اعتقالات(١٩٤٨_١٩٤٩م)، وعندما خرج
من المُعتقَل تغيّر
تماماً، مشيراً إلى أن الذين يخرجون من المعتقل يطلّقون السياسةَ والوطنية
وكل مايتعلّق بهما..
*لقد دافع كثيراً عن
الثقافة والمثقفين فى مصر...
وأذكر أنه لما دخل (أمل
دنقل) معهد السرطان ،
وتجاهلته وزارة الثقافة
فى عهد الوزير (عبد الحميد
رضوان) كتب مقالةً
صارخة ،جعلت الوزير يهرول بإرسال برقية محاطة بالورود ل(أمل) وإصدار رئيس
الوزراء(فؤاد محيى الدين) قراراً استثنائياً بعلاجه على نفقة الدولة...فالأديب
والمثقّف الحقيقى ، مبادئ ورسوخ قيَم تسبق أعماله الأدبية..
ومثل هذه المواقف
الشجاعة نحتاجها بين المثقفين والأدباء ..أن نحيطَ أنفسنا بالرعاية ودفء العلاقات
والروابط الإنسانية وأن
نصطفّ فى مواجهة من يحاولون قتل الثقافة والإبداع، ومن يحاولون أن
يجعلونا على هامش تلك
الحياة ،أو يمارسون ضغوطاً لتحييدنا أو "التطبيل" لأهوائهم .
*أربعةً وستين عاماً
عاشها (يوسف إدريس)مشحوناً
بأعلى درجات الانتماء
لمصر ..كان يحبها..يعشقها إلى أبعد مدى..تلك الطاقةُ الإبداعية كانت من أجل
الإصلاح..التغيير..النهضة..لذا
كان (يوسف إدريس)
واقعياً فى قصصه
ومسرحياته ومقالاته ..
* لم تكن القصة لديه
للتسلية..إنما إثارة القارئ لينفعل بها ..ليتحرّك من سُباته.
*لقد كان(يوسف
إدريس)مختلفاً تماماً فى حياته الأدبية، وهو القائلُ نفسُه:"قصةُ حياتى
الأدبية
مختلفة عن قصص حياة
معظم الأدباء، فأنا كتبتُ
القصةَ أولاً،ثم قرأتُ
لغيرى ثانيةً"..إذن ،كانت ال"أنا"
أولاً، لكنها
"أنا" غير التى تخطر فى بالنا،هى "أنا" الكتابة..أن تكون
ذاتك، هو فسّر ذلك بقوله:"الأنا
الحقيقية تتحرّى فى
الكتابة فحسب،وفى لحظة
من لحظات الكتابة التى
أحسّ فيها أنّنى نفسى فعلاً،لذلك لاأستطيع أن أكتب إلا حين ألغى العالم
كلَّه ، وأنصهر فى
الأنا الكُل ، وبالطبع ليس سهلاً الوصول إلى هذه الحالة..هذه ليست عُزلة ،إنها
الاتّصال الحقيقى الصادق بالحياة".
* إن كان قد دافع عن
الثقافة والمثقفين كثيراً ، فقد كان أيضاً مُحفّزاً لكثيرٍ من المواهب والمبدعين،
وقدّم للساحة الأدبية:(يحيى الطاهر عبدالله)....
قدّمه للجمهور
عام١٩٦٤م، فى مجلة"الكاتب"واصفاً إياه بأنه:"كاتبٌ لايستعير أصابعَ
غيرَه ولايُقلّد أحداً"
_وقدًم (د.محمد
المخزنجى)ورائد أدب الجاسوسية
(صالح مرسى).
*لكن الفارس المُحارب
لم يسلم كغيره من الفرسان
من الحاقدين
الحاسدين..هم موجودون فى كل مكان ،وفى كل زمان. كمثل اللاعب الفذ،إذا أحرز
"هاتريك "فى أكثر من مباراة..فهذا شئ خارقٌ للعادة..هذاشئٌ غيرُ
مألوف..فكان(يوسف إدريس)
فى نظرهم مُدمناً
للعقاقير المُنشّطة..!!!!
* أميرَ القصةِ
العربية...أيها الفارسُ الشجاع..أيّها المُحارب البطل..ذهب الحاقدون لاندرى إلى
أين ذهبوا..وأحاطك التاريخُ برعايته، وأظلّك بأغصان الحب ، وأبقاك ذكرى خالدة ..فى
بيوت المثقفين..
المفكرين..الأدباء..فى
المكتبات..فى الذاكرة:
(إنسانٌ لاتمحوه الأيام ،اسمه :يوسف إدريس)
-------------------------------------(رحمه
الله)
حامد حبيب_مصر