على منصور
***
بينما الشمسُ تغربُ
قلتُ لصاحبي : إني قد يئستُ ، ثم إني قد يئستُ ،
فأمسك بيدي وترجل خارجا بي ناحية الجسر ، رُحنا نمشي بينما الشمسُ تغربُ ، ولما لم
تفلحْ إحدى وخمسون خطوة في أن تزحزحني عن سُكوتي قال صاحبي : انظر!! من ذا الذي
يمكنه أن يكون جميلا هكذا ، في غروبه ، مثلما هو جميلٌ كلما أشرقَ ، قلتُ : أء نك
لأنتَ الشِّعرُ ، قال أنا الشِّعرُ قد منّ الله علىّ و جعلني صاحبكْ .
البكاءُ على كتفِ الشعرْ
أخذني الشعرُ من يدي وقال أتستطيعَ معيَ صبرا ،
قلتُ نعم ، وكان اليومُ يومَ جمعة ، ولم يكنْ باقيا على النداء للصلاة سوى ثلاثة
أرباع الساعة ، قالَ سنصلي في مسجدٍ بالكوفة ، توضأنا وأخذنا زينتنا، وقبل أن
يُرفع الآذانُ بدقائق معدوداتٍ كنا نتخطى عتبة المسجد مسرّين في أنفسنا : ربنا
افتحْ لنا أبوابَ رحمتك ، ثم شرعنا نؤدي ركعتين (تحية المسجد) ، وبينما نحنُ ركوعٌ
غشينا صوت المؤذن فتنزلت علينا السكينة ولم يعد في القلب من أمور الدنيا إلا اللمم
، حتى إذا قال المؤذن(حيّ على الفلاح) سمعنا دويا خِلتهُ قيامَ السّاعة، كانت
الأشلاءُ تتطايرُ وصرخاتُ الهلع تدوي في باحة المسجد حين سقطتُ مغشيا عليّ ، وحين
أفقتُ في المشفى سمعتُ الناسَ يقولون من يُردْ المشاركة في تشييع الضحايا فليتبعنا
، فتبعتهم إلى القبور ، هناك رأيت الشعر يُهيلُ الترابَ على الموتى ، ويسكبُ الماء
بينما يتمتمُ : كلا ليس بمؤمن ، كلا ليسَ بمؤمن ، ولما رآني أخذني لجنبه صامتا ،
قلتُ : سمعتك تتمتمُ ، قال : كنتُ أردّ على الموتى ، كلما سألني أحدُهم : أمؤمنٌ
فعل بنا ذلك ؟ فأجيبُ : كلا ليس بمؤمن ، فألقيتُ برأسي على كتفه ورحتُ أبكي !!
حلمُ يقظةِ قصيدةِ نثرْ
بكفين صغيرتين فاجأني منَ الخلفِ ، وأطبقهما على
عينيي ، وظل صامتا ، رحتُ أستنشقُ الرائحة علي أعرفُ منْ ذلك الحميم الذي اقتحمَ
علىَّ شرودي ، لا يفعل ذلك إلا ولدٌ مرحٌ أو خلٌ يأتي بعد غياب ، دافئة أصابعُ
كفيه وأنفاسُه توقظ داخلي ذكرياتِ صبا ، شيئا فشيئا أمسكتُ بخطوط جلبابه الداكن ،
وتأرجحه في أغصان شجرة التوت ، (عليُّ) أيها الوغد ، تعالَ لأحضان الكلمات وأعطاف
الموسيقى ، تدحرجْ بي يا وغد على حشائش السفح ، واغفر لراعية الأغنام التي التهمت
نعجتُها نبتة المانجو ذاتِِ الأسابيع الست ، سامحها لأجلي يا فتى وراقصني على
العشب ، دوّخْ تفاصيلي وأوقدْ على البوح حتى تنشق بذرة الحنين عن نبتة أخرى ، فإذا
ما تهيأتُ لشفتيكَ فاعلم أنني فتنة .
لم تكنْ بنت الخَال ، لكنّهُ الشعرُ ابنُ خالة
الحُبْ
قلْ لي يا عليّ : كيف تفرقَ بين الحُبّ الصّادقِ
والحب الزائفِ ؟! هكذا باغتني قبلَ أن أفيقَ من تأثير طيبة الملامح ، والإطراقة
الخَجلي ، والعينين ، العينين اللتين على مهل تركتا عينيّ ، قلتُ : عفوا !! قال :
أتعرفُ الفرقَ بين الحب الحقيقي والحب المغشوش ، قلتُ : إذنْ تلصّصْتَ علىَّ أيها
الشعرُ ، قال : كلا ، ولكن وددت أن يطمئن قلبي ، ثم تركني ومضى !!
حينما انتبهت القصيدةُ على نشيج الشاعرْ
ألجأتُ ظهري لظهره ، وأغمضتُ عينيّ ، لكنّ الخمسَ
دقائق فاتتْ دون أن يسألني عمّا بي ، حتى أوشكتُ على البكاء إلا أنّ نحيبا مكتوما
عصَف به فاستدرتُ واحتضنتهُ ، كانتْ عيناهُ حمراوين كأن لمْ ينم ليلتين ، قلتُ
هوّنْ عليك يا حبيبي ، هَوّن على قلبكَ وعينيك ، قال أيفلتُ القتلة يوم الدين ،
قلتُ لا يفلتون ، قال أرأيت إن استحوذ على البيان المجونُ ، قلتُ فبئس القرين ،
قال أرأيت إن سفه الظُّرْفُ فطرة الطيّبين ، قلت أنتَ بريء مما يفترون ، قال
فاشهدي قلتُ أنا من الشاهدين .
أيُّها الشعرُ ، أنا لوْلاكَ يتيمْ
في العاشرة والنصفِ من صَباح الثلاثاء الرابعِ
والعشرين من شهر رجب سنة ثمانٍ وعشرين وأربعمائة وألف من الهجرة ، وبعد خمس وسبعين
سنة من ولادتها ماتت أمي فدهمني اليتم بلا رحمة ، وخانتني ساقاي إلا أن ثمة من
تلقفني بساعديه وأجلسني على حجر وقال : أيحزنك لمُّ شملهم بعد كل هذه السنين ،
أمُّك وأختك وأبُوك ، قلتُ: كلا ، قال : أنسيتَ يا عليُّ أنهم لم يجتمعوا في
الدنيا ، إذ ماتَ أبوك قبل أن تولد أختك وأنتَ ابنُ خَمس سنين ، قلتُ : نعم وسكنتُ
فجلسَ إلى جواري وربّتَ على ركبتي فبصصتُ في عينيه وهمستُ : لو لم يقلها رسول
حمزاتوفْ منْ قبل !!
الشعرُ في العشرين ، الشعرُ في الخمسين
قبل ثلاثين سنة ونصف السنة كتبتُ قصيدة تفعيلية
مولعة بالأيديولوجيا المادية ، وكان عنوانها ( الأرض تدور في جمجمة ابن منصور ) ما
لبثت أن نشرتها دورية ثقافية في بلدة اشتراكية، سوى أن الدورية الثقافية لم يعد
لها ذرية ، والبلدة الاشتراكية لم يدم لها بيرق ، وهاأنذا ما زلت أحلم بكتابة
قصائد تشبه الأطعمة التي يتخطفها المساكين لدى المقابر ، تماما كأنها رحمة ونور
على روح شاعرٍ مغمورْ .
كأنهنَّ المؤمناتُ الغافِلاتْ
قال الشعرُ إياك يا عليُّ أن تكون قد حزنتَ يوم
حالوا بينك وبين ( جائزة الدولة التشجيعية ) ، قلتُ أنتَ تعلمُ أني ما كنتُ
أريدُها إلا لقصيدة النثر ، قال الله أعلم لأي شئ كنتَ تريدَها، لكنه هو الله ربّك
أراد ألا يمسَسْك رجسُ (الأموال العامة ) التي هي حقُّ اليتامى والمشردين ، وحقّ
الثكالى والمحرومين ، وحق أطفال الشوارع والكادحين ، وحق الفقراء والمساكين ، فقل
الحمد لله رب العالمين ، وإذا ما جاءتك القصائدُ كأنهنّ المؤمناتُ الغافلاتُ فلا
تكونن من الغافلين.
وأظنُّهُ لا يزال هناكْ
كانت الشحناءُ ترتعُ بين الناس، وأنا والشعرُ
نرقبُ من على رصيفٍ ، نظرتُ إليه ونظر إلىَّ وكأنما قرأ في عينيَّ ( أين ذهب
العفو) فأمسكَ بيدي وقال: آخرَ مرة صادفتُ فيها العفو كانتْ هناك ، طيّ أدبيات
التعاليم ، ثم أردفَ : وأظنه لا يزال هناك ـ حزينا ـ لا يجد من يأخذ بيده ولو خطوة
واحدة إلى الشارعْ .
ورقة بيْضاءَ في غُرفةِ الشاعرْ
قالَ لي الشعرُ : تعال الليلة يا عليّ نستمع لسورة
الأنعام من الشيخ محمود خليل الحصري ، حتى إذا أتمها علينا حمدنا الله
.
عـــلى منــصـور