فتحي مهذب
عمق الحفرة يا قبار(١)
على إيقاع آخر خطوة لمشيعي جثتي شبه المتعفنة التي عثروا عليها في مبنى
مهجور معلولة بآثار دم وكدمات زرقاء.
طلقة نارية على مستوى الرأس حسب تقرير الطب الشرعي.
المهم إفرنقع مشيعو الجنازة الواحد تلو الآخر.
خيم صمت رهيب في المقبرة.
صمت لاعهد لي به من قبل
وعلى غرة إنفجر شيء غامض في جسدي إنها عودة الروح.
نظرت يمنة ويسرة لم أر أحدا لا بشرا ولا بيوتا ولا عربات فخمة لا مطرا يلقي
بسبائك الذهب على المارة ولا كلابا سائبة تقضم الفراغ بأذنابها المعقوفة.
الحياة منعدمة كليا هنا في هذه الحفرة الضيقة
كدت أختنق من عطانة أجزائي شبه المتحللة.
أدركت كنه حقيقتي المحتومة.
موتي الدراماتيكي المتأخر شيئا ما .
وبينما عيناي تحلق في أصقاع عتمة خفيفة مثل طائر مهيض الجناح إذ سطع ضوء باهر وتجلى أمام ناظري ملاكان على طرفي نقيض أحدهما جميل ذو أبهة وثانيهما
غاية في الدمامة والقباحة والتوحش.
أدركت للتو أنهما الملاكان اللذان يتحدث عنهما الناس في ربوعنا الشرقية
المليئة بالأساطير والحكايات ذات النكهة الضاربة في جذور المخيلة.
قال الأول : من ربك؟
قلت : بثقة في النفس والدم يسيل من أطرافي.
- لا أعرف.
- ضربت في مناكب السماوات والأرض بحثا وتنقيرا عنه بيد أني لم أجده.
إستشاط ذاك الملاك القبيح ذو الثلاثة أعين وخمس عشرة ذراعا كما لو لو أنه
أخطبوط متوحش. وانهال على جثتي النتنة
ضربا بالكرباج.
قلت في دخيلة ذاتي : ملعون فوق
التراب وداخله. في حياتي الظاهرة والباطنة.من القماط إلى الكفن والعصا تلاحقني مثل
ظلي.
ثم قطع مساءلته ذاك الملاك الجميل الذي يشبه السيد جيمس بوند إلى حد بعيد طارحا سؤالا كهنوتيا صرفا :ما دينك؟
قلت : حب الحياة حب الجواري الممشوقات حب المال حب ارتياد الحانات الفخمة حب الشيء وضده حب
الشعر والموسيقى حب الأرض البحيرات رؤوس الجبال الشاهقة.
الأماكن النورانية الخارقة.
ثم إنطلقت زفرة متقطعة من فمي.
ثم أعاد السؤال الملاك الجميل.
لم أجبه وظللت متأملا في زرقة عينيه المتوهجتين وصباحة وجهه السماوي.
ثم قلت له : إني جائع لا أستطيع الكلام والحوار آمل في الحصول على شطيرة
بيتزا أو قليلا من شرائح الهمبرغر . الأسعار مشطة جدا في دار الحياة الفانية
والفقر ينيخ بكلكله على الأناسي. وبخاصة في هذه الرقعة الجغرافية المعتمة حيث
تتقاتل الضباع المسعورة من أجل السلطة والجاه والكراسي الفاخرة. والإنفراد بالسلطة المطلقة
وبسرعة ميتافيزيقية خاطفة أتاني بشطيرة بيتزا لم أر مثلها سابقا وقارورة
ماء عذب.
إلتهمت كل ذلك ثم نظرت إليه.
فقال : إذن أجبني.
أشكرك أيها الملاك الطيب ولكن أحب
احتساء النبيذ حتى يتعتعني السكر بعد ذلك سأجيبك.
وبسرعة البرق ناولني المزيد من الخمر الذي يتحدث عنه كتابنا المقدس منذ
قرون وله مذاق فردوسي نادر جدا.
قال الملاك القبيح : إذن أجبه.
قلت : البلاد متعفنة جدا.
ملآى بمومسات السياسة ومحلليها العصابيين.
وعلى إثر هذا تلقيت صفعة كما لو أني أمام محقق في محكمة التفتيش
القروسطية من قبل الملاك الجلف ذي الأعين
الثلاثة المخيفة المكتظة بالشرر.
قلت بصوت متهدج : لا علاقة لي بأي دين
سماوي أو أرضي.
وفي غمرة هذه الجلبة إخترقت روح أمي القبر متوسلة الملاكين بصوت موجع
متكسر بأن يخليا سبيلي.
-لقد لاقى إبني ماذاق من العنت والنصب
والتشرد والسجون وكراهية السوقة
والرعاع وظلم ذوي القربى.
بيد أن الملاك الجلف سرعان ما أخرج مسدسا مكسوا بطبقة خفيفة من الغبار مطلقا النار باتجاهها.
قلت في قرارة نفسي : ما أقساك أيها
الملاك المقرف المقزز أما في قلبك ذرة من
الرحمة والشفقة.
حملق في تفاصيل وجهي متوعدا إياي بحفلة مريعة من العذاب الأبدي.
نظرت إليه بتحد وشموخ.
أنا لا أشفق من التعذيب اليومي.
فأنا خريج السجون العربية القاسية.
وفجأة إنهال علي بالكرباج.
شتمته كثيرا وأقذعت له في الهجو
بينما خصيتاه تتدليان مثل بيضتي رخ عملاق.
بعد ذلك شعرت بشبح الموت يقترب من جديد مطوقا جثتي القذرة بمخالبه الحادة.
إستسلمت مثل شاة صغيرة في قبضة نسر.
وداعا يا جسدي الشقي.
بينما إتجه الملاكان إلى الحانة بحثا عن حرفاء جدد ليطرحا عليهم أسئلة
مطبوعة بالفجاجة والغثاثة.
١ إيليا الحاوي.