مصطفى حامد جاد الكريم
١٠ قصص قصيرة جدا
في مجلة القصة التي يصدرها نادي القصة بالقاهرة
شكرا للأستاذ محمد القصبي والدكتور سيد نجم
.
قصص ق ج
مصطفى حامد جاد الكريم
-1-
الشك
إنه متأكد من أنه استيقظ..ومتأكد من أنه يذكر الحلم الذى حلم به خلال نومه..ومتأكد من أنه فى نفس المكان الذى نام فيه..ومتأكد من أن محتويات الحجرة مازالت كما هى..ومتأكد من أنه سيتوجه إلى عمله كالمعتاد..ومتأكد من أنه يسمع الآن نفس أصوات الشارع التى يعرفها..ومتأكد من أن الذى يغنى فى مذياع الجيران هو المطرب الفلانى..ومتأكد من أن ضوء الشمس يغمر الستائر..
فلماذا كل هذا الشك؟!
-2-
يوم آخر
استيقظ مهموما..فأمامه يوم آخر من المشى بلا نهاية..يطرق أبوابا غريبة..قد وقد لا تعاين بضاعته المحمولة..وقد وقد لا تشتريها..عينه على النسبة..أحيانا يتودد إلى الزيائن بطريقة يتعجب منها فيما بعد..هل أنا الذى قلت ذلك ؟..وأحيانا تطن فى أذنه اصطلاحات رددها أثناء الدراسة..اقتصاد السوق..فيبتسم ويعبس ويردد بينه وبين نفسه..غول السوق..إنه الآن تحت أنيابه..يحركه بلسانه..من ناب إلى آخر..يلعق ماء وجهه المتناثر على اللثة.. لا يجد فائدة من المقاومة..يتناول إفطاره بسرعة..ويخرج مستسلما..ويدخل الفم المتلمظ !!
الزعيم
ارتفع صوت الجماهير بالخارج..ألقى نظرة أخيرة على الخطبة التى سيلقيها..تذكر أول مرة خطب فيها..كان هناك حماس وصدق..تذكر أيضا أول مرة كذب فيها على الجماهير..كان يسمع نفسه كأن شخصا آخر يتكلم..بعد ذلك صار الكذب سهلا..أصعب مرة هى أول مرة..هناك أيضا "أول مرة" لا ينساها..أول مرة قام فيها معاونوه بقتل أحد معارضيه..بعد"أول مرة" لم يعد طعم الدم مالحا..صار كالماء بلا طعم ولا رائحة..كان يؤمن بخلود الوطن..الآن يؤمن بخلود ملايين الدولارات التى ستؤمِّن مستقبل أحفاد أحفاده..شعر بأنه شبح يحاول أن يكون إنسانا.. أفاق على صوت نائبه : الجماهير تنتظر..
-4-
المنبه
دق المنبه فى عقلى..فتذكرت ميعاد الجرعة..لا بأس معى ما يكفينى..ويكفى رفاقى..الذين لم يحضروا..السهرة ستبدأ بعد قليل..أحب أن أحضر الحلم من أوله..أحجز أول مقعد..أنسى دائما من سيجلس جوارى..سأعرفه عندما يحضر..الأضواء تقلقنى..والظلام يخيفنى..أحداث الحلم تبدأ..البطل يعرفنى..الأحداث تتطور..يظهر قتيل..بلا دماء..يظهر قاتل..بلا سكين..الأحداث تزداد غموضا..البطل يحاول أن يوقظنى..يصل الجالس جوارى..لا أعرفه..يستأنف معى حديثا لم يبدأ..أتجاهله..أستجيب للبطل..أستيقظ
-5-
أحزان نجم
لم يبق لى إلا عدة ملايين من السنين وتنفد طاقتى وأتحول إلى ثقب أسود موحش يبتلع كل من يقترب منه..عزائى أن صورتى ستصل إلى آلاف الكواكب بعد موتى..ستظل ذكراى فى الفضاء..تتحدث عن نجم عاش وحيدا ومات وحيدا..ماذا يعرفون عن الوحدة..عشرات الملايين من السنين أمضى وحدى هائما..أقرب النجوم يبعد عنى ملايين السنين الضوئية..أما الكواكب التى تدور حولى فهى تحرص على عدم الاقتراب منى حتى لا أحرقها..ولولا الجاذبية لفرت مبتعدة..دائما تنظر لى بارتياب..فإن لم أحرقها وأنا حى..فقد أبتلعها بعد موتى..كيف أقضى وقتى؟..أقضيه فى عد جيرانى..نجوم مجرتى
-6-
بائعة
وقفت فى مكانها المعتاد كل يوم..تلمع جفونها لمعان ردائها المكشوف..يمر الزبائن راجلين وراكبين..يعاينون البضاعة وينصرفون..تبتسم ابتسامة مصنوعة..ترى ماذا فى داخلها ؟..بداخلها خجل ميت..ويأس متجمد..وخبرة تحتمى خلفها..وذكرى بعيدة جدا عن حياة أسرية..يخيل إليها أنها كانت حلما..استيقظت منه..أو أنها حاليا فى كابوس..سوف تستيقظ منه..على تلك الحياة البعيدة..رضى زبون عن البضاعة..فاستسلمت لمذبحة جديدة
-7-
نقطة دم
صدر لها الأمر بالعودة إلى القلب..بعد أن مرت على آلاف الخلايا وغذتها بالأكسوجين الذى كانت تحمله..ما زالت تذكر كل تلك الشرايين التى مرت بها..وما زالت تذكر تلك الممازحات مع نقاط الدم الأخرى ومحاولة كل نقطة أخذ بعض الأكسوجين من النقاط الأخرى وتزاحمها فى الشعيرات الضيقة وهى تتضاحك..انتهى كل ذلك وحان ميعاد العودة السريعة إلى القلب ..يسود العودة الصمت وشيئ من الكآبة ربما بسبب اللون الأزرق الذى يسببه نقص الأكسوجين..تسقط فى دوامة البطين ويدفعها الشلال إلى الأذين..تخرج بحماس مندفعة إلى الرئتين..تَعُبُّ من الأكسوجين بنهم..تعود منتصرة إلى الأذين..تمرق مدافعة باقى النقاط إلى البطين..تبحث عن النقاط صديقاتها لتبدأ معها رحلة جديدة إلى الخلايا الظامئة
-8-
التحقيق
فتح كاتب الجلسة الدفتر..بدأ وكيل النيابة الأسئلة..حاول المتهم أن يتذكر ما حدث..
س: اسمك وسنك ومهنتك
ج:........
س: أين كنت وقت وقوع الحادث ؟
بدأت الأسئلة الصعبة..فتحديد المكان معضلة..لقد توصل العلم إلى أنه لا يمكن تحديد مكان الألكترون..كل ما يمكننا هو أن نحدد بمعادلة معقدة احتمال وجوده..
س: متى غادرت المنزل ؟
كل ما يذكره أن القمر كان يحاول الاختفاء خلف البناية الحديثة الضخمة المقابلة..
س:هل رأيت شخصا غريبا ؟
الناس بالنسبة له كلهم غرباء..أو أنه هو الغريب بينهم..نعم لقد رأيت شخصا غريبا هو أنا..
س:لماذا كنت تحاول الفرار من مكان الحادث ؟
الفرار..نعم كنت أحاول الفرار..لكنها ليست أول مرة..دائما أحاول الفرار..ودائما أفشل..
س:ما تفسيرك لوجود دماء فى عروقك ؟
لا أعرف..ربما تعرضت لعملية نقل دم ..
س:لماذا قتلت المجنى عليه ؟
يحاصرنى بمهارة المحققين..يحاول دفعى إلى الاعتراف لأتخلص من أسئلته..معنى سؤاله أننى الجانى أو أن ذلك محتمل ..
س:يمكن أن أعتبرك شاهد ملك..
هل يمكنه ذلك فعلا ؟..لكننى لن أعترف..يبدو أنه محقق ماهر فعلا..
....: يحبس المتهم أربعة أيام على ذمة التحقيق
أربعة أيام ..مضروبة فى أربعة تحقيقات..مضروبة فى أربعة محققين..مضروبة فى أربعة تهم..مضروبة فى أربعة كتاب جلسة..مضروبة فى أربعة مجنى عليهم..مضروبة فى أربعة شهود ملك..تساوى 444444444444 أو أن ذلك محتمل..
-9-
الآن
الآن أعرف كيف أسبح..لكن الماء غاض..الآن أعرف كيف أحب..لكن حبيبتى ماتت..الآن أعرف كيف أتكلم..لكن الجمهور غادر القاعة..الآن أعرف كيف أعدو..لكن المضمار أغلق..الآن أعرف كيف أفكر..لكن التفكير صار مهمة الآلات الحاسبة..
-10-
بعض السطور
استيقظ على يوم جديد..مزق صفحة من نتيجة الحائط..بعض الذكريات تضغط عليه..بعض الذكريات تركت جمجمته..بعض الالتزامات توخزه..بعض المحيطين به يهددونه..بعض الأصوات تدخل أذنه..
أمسك قلمه..بعض الكلمات تقاومه..بعض الكلمات تخجله..بعض الكلمات لا تظهر..الحبر يتغير لونه
رفع سماعة الهاتف..بعض المكالمات قد تكلفه سعادته..بعض المكالمات مجانية..بعض المكالمات لم يطلبها
دخل عليه رئيسه..بعض إيماءاته بذيئة..بعض صياحه تدريب صوتى..بعض قراراته حلم بها بالأمس
ركب السيارة..بعض الركاب يتبادلون النظرات..بعض الطرقات مغلقة..بعض الوقود يتسرب..بعض المحطات تتلاشى..