ارادة الشعب و سيادة الشعب
العقيد بن دحو
العديد من المتتبعين للشان السياسي و الشان الادبي لا يدركون مكمن تلك
العبارة : من الشعب و الى الشعب " ، او " من الشعب و بالشعب " ، و
من حيث حروف الجر تنوب عن بعضها البعض .
هي في اصلها و فصلها كلمة سياسية
تعود الى عهد مهد الحضارة الديمقراطية اليونانية ، حاضرة الاغريق.
تعود بالضبط الى الشاعرين الملحميين " هوميروس" ؛ و " هزيود
" ، يوم كان الشعر يقوم مقام جميع القيم السياسية الاجتماعية الفنية ، اللسان
المعبر عن السلطة و الشعب ، يوم كان صوت الشعب من صوت الاله.
يوم كانت كل عبارة في نص ادبي اغريقي تحمل قصيدة مجمدة ، و نفس جماعية لا فردية.
بل كل عبارة بمثابة نص قانوني ، حتى اذا ما تعلق الشعب بشيئ صار قانونا.
صحيح العبارة الشهيرة " من الشعب و الى الشعب " . التي كانت تملا
واجهات مرافقنا العمومية حتى منتصف الثمانينيات ، و التي ملاتنا بدورنا ديماغوجية
وبروبجندا (تفريغ)... ، بدات تختفي دون ان يسال احد منا لماذا ظهرت و لماذا اختفت
هكذا دون سابق انذار .
لا احد يعرف من اين جاءت فقط انها جاءت دون تفكير و لا تغيير !.
من الاحسن ان اللا نسال و ان نبطل عمل الحواس ، عوض الغور في دهاليز تلافيف
ماض سحيق سرمدي لا طائل من وراءه. دون ان يكون للشعب فيها من خيار !.
الحديث عن كلمة " شعب " هي كلمة سياسية بامتياز ، هيولى ، فضفاضة
. ضاربة جذورها اعماق التاريخ ؛ بل ما قبل التاريخ . يوم كانت الاسطورة ، الحلم
الجمعي و الواقع الملموس شيئ واحد .
يوم كان الانسان مرتبطا بذاكرته الحيوانية ، و يوم ان امتاز الانسان بما
يمتاز به الاله Veix populei ex veix dei.
من الشعب و الى الشعب ، و عن طريق الشعب ، كمدخل ، متخلل ، مخرج ، و كتغذية
راجعة ، تعود الى هوميروس و هزيود في اشعارهما الملحمية.
ففي حين هوميروس كان اوروستقراطيا ، يميل الى الحزب "
الاوروستقراطي" سياسيا ، اذ كانت جل اشعاره و ملاحمه و لا سيما في الملحمتين
الشهيرتين العالميتين الكلاسيكيتين " الاليادة" و " الاوديسا"
، يمدح و يتقرب من النبلاء ، و من الحكام ، و الفئات العلية الالهة ، انصاف الالهة
و الابطال.
بينما كان هزيود ديمقراطيا ان صح التعبير ، يميل الى عوام الناس ، الى
مختلف الفئات الاجتماعية المتوسطة و الدنيا ، الى الحرفيين ، المهنيين ، الفلاحين
، الكادحين ، البوليتاريين ، المتسكعين
المتصعلكين البطالين و من هم على هامش الحياة لا شغل و لا مشغلة .
ويمكن ان نتخذ من قصيدته الشعرية " الاعمال و الايام " هزيود
الانموذج الحسن في قصيدته الشهيرة ، اين
يتحدث فيها عن المجتمع في (بيوتيا) و خاصة هذه الفئة من فئة الفلاحين و سفلية الساكنة.
يحلو للعديد من النقاد و لا سيما فلاسفة الالمان وجه المقارنة و المقاربة
بين هوميروس و هزيود. و مما قالوه عنهما : في حين كان الشاعر هزيود "
(ديمقراطيا) في اشعاره يتحدث الى الشعب و عن الشعب ، و لذلك انتشرت اشعاره
و افكاره بين سائر افراد الجماعات الشعبية اكثر من انتشار اشعار هوميروس
في الاليادة و الاوديسا على سبيل المثال لا الحصر.
كان هزيود مخاطبا الشعب ، متحدثا عن احواله وطرق معيشته خاصة طبقة الفلاحين ، كان يتحدث عن الزراعة ، التجارة ، و الاعمال
الاخرى التي يقوم بها العوام . و لكن على طرف نقيض كان هوميروس يتحدث عن الطبقة العلية من الشعب اي طبقة
الملوك و الامراء . فهو شاعر الطبقة الاورستقراطية في اليونان ، لذا تراه لم يكترث
بالشعب و لم يعير له ادنى اهتمام. دائما حديثه كان حول الابطال و الملوك و
الامراء. فكان هوميروس يتحدث عن الطبقة العليا للمجتمع عن الالهة و انصاف الالهة و
الابطال.
من جهة اخرى كانت عواطف هوميروس باتجاه المراة جياشة ، فنظر الى جسدها و
ميولاتها و رغباتها فانشدها و غناها و انزلها منزلة القلب من السويداء ، و منزلة
العين من البؤبؤ ، بينما كان يراها هزيود بجانبها المادي الاجتماعي ، شريكة الرجل
في الحقل و المصنع و البيت.
لذا يرى النقاد ان اشعار هوميروس شعرا
و شعورا ، يمس عمق وجدان البشر ، و ان تفكيره تفكيرا خصبا ، يتلخص في ان
الالهة حلوا بالوجود كله ( الحلولية) ؛ و من حيث الحب وطن الحلول . و انها متحدة
معه ، بل الانسان حل في الاله. و كان لهذا اثره على الادب و السياسة اليونانية ،
كونهما امتازتا بما امتاز به الاله من تنوع و تعدد خصائصها .
حتى ان هزيود ذاته يعترف اخيرا بان حقبة هوميروس كان محظوظا ، و كانت فترة
غنية ماديا يعم بها الرخاء و رغد العيش ، انعكست على باقي القيم الاخرى.
غير انهم يرون : الديمقراطية نظام حكم او تيار سياسي يعتمد على الترف و
الوفرة و البذل و السخاء و الانفاق على الحملات الانتخابية ، و لا تصلح لحكم شعب
فقير مدقع، محبط العزيمة و معدم الارادة.
و بالتالي كان لا بد من معادلة وسط تجمع بين هوميروس و هزيود (هوميزيود) ،
تجمع بدورها بين فكرتين فلسفيتين الاورستقراطية و الديمقراطية. لتصير عندئذ الحضارة
الديمقراطية هي : خبز الفقراء وترف الاغنياء .
تجمع بدورها بين كلمتين سياسيتين : " سيادة الشعب " و " ارادة الشعب" .
اين تتجلى هاتين الكلمتين الديماغوجيتبن ، قصد دغدغة و هدهدة Berceuse عواطف
المنتخبين. التي غالبا ما تعتمد على التنظيم المحكم و الجيد الذي يقوي بدوره
الموالين و يشجع المترددين و يجذب المستقلين.
وقتئذ قد تشير الاحاديث العادية الى
" ارادة الشعب" ، بينما
يتحدث السياسيون ، الساعون لاجتذاب الاصوات عن " سيادة الشعب " او الشعب هو السيد ، بينما يتحدث القضاء باسم
الشعب ، و المرفق العام لا تزال تلك العبارة تملا اللوح المعلن من الشعب الى الشعب
، من حيث حروف الجر تنوب عن بعضها البعض ، ليظل السؤال مطروحا يشغل بال العديد من
المهتمين بامور الشعب : اين الشعب اصلا من
هذا كله سيادة و ارادة !؟