اهمية رمزية و دلالات الحواس الخمس في الفن و الادب و الثقافة
العقيد بن دحو
*
- سئل " سقراط" الا تخشى على عيناك من مداومة الكتب ؟
اجاب : ان سلمت البصيرة فلا احفل بقواعد البصر م.
هذه " السقراطية" - ان
صح التعبير - تشير الى اهمية الية الحواس الخمس و حتى الحاسة السادسة اكثر من
العضو ذاته. غير ان هذا لا ينفي اهمية سلامة الحواس الخمس المعهودة ، فيزيولوجيا
من سلامة القيم ، القيم الانسانية ؛ و انسنة الانسان بالزمان و المكان و عبر كل
العصور.
اذ القارئ المبدع و هو بقرا او يكتب يبطل كافة اعمال وظائف الحواس خارجيا ،
و يعيش مع مكونات اخرى كالليل غريبة عن
هذا الوجود.
سلامة الحواس من سلامة الفن و الادب و الثقافة ، ليكمل الحياة. خلق الانسان
ليكون ناجحا في الحياة ، و خلق المجتمع ليمكنه من النجاح او كما تقول الحكمة.
غير ان مع التطور الثقافي و الحضاري للامم و الشعوب ، و كذا النمو و الازدهار
التي شهدته المدارس و المذاهب الادبية و الفنية لم يعد المبدع الخلاق لمادته
الابداعية يثق و يعتمد كليا على الحواس الخمس ووظائفها الفيزيولوجية النمطية
التقليدية بالمعنى الاخلاقي " الارسطي" التكفيري التطهيري للكلمة. و
انما صار يعتمد على ( اصداء ضياء الحواس ) ان صح التعبير. او ما صار يسمى ( تراسل
الحواس) ، كان تصبح ( المرئيات) مسموعات ، و ( المسموعات) مشمومات ، و (
المشمومات) اذواقا ، و (الاذواق) ملموسات بما يغنى به اللغة الشعرية.
بل حتى صار ما يميز تراسل الحواس ( تداعي الافكار) بالوعي و اللاوعي ايضا.
وكيما يتسنى الانتقال. من الوعي و اللاوعي ، و من الخيال الى الواقع ، و من عالم وقائع الانطباعات المعاشة و عوالم
الشعور الى عوالم الاساطير.
ايضا القيم تنتقل و تحول ، اذ يصير ما يميز الكتل و البضائع و الحجوم لونا
و شكلا و مساحة يصير يميز القيم الانسانية ادبا و فنا و ثقافة ، سياسة و مجتمعا .
و لا سيما منذ ظهور الانطباعية ؛ اذ تحلل الكائن البشري الى لون و ضوء ، كما يتحلل
اللون الابيض على قرص نيوتن او الوان الطيف كما هي تجارب العلوم الفيزيائية.
في مجرى الزمن انتبهت اليونان حاضرة الاغريق مبكرا الى اهمية الحواس الخمس
و منحتها اهمية بمكان و زمان ، بل جلتها و الهتها و عظمتها ، و قدستها ، و انزلتها
منزلة الالهة ، انصاف الالهة و الابطال ، ضمن حضارة الجسد الكائن البشري نفسا و
روحا و هيكلا.
فالعين لم تعد فقط جهازا اليا ، الة تصوير بيولوجية فيزيولوجية لالتقاط
الصور بشكل الي اوتوماتيكي و انما ما بعد الصورة ، و كذا الحديقة الخلفية و
المرجعية الحضارية الثقافية للصورة.
فحين يتحدث الشاعر الدرامي التراجيدي الاغريقي " صوفوكليس" بلسان
( اوديب ملكا) متوجها بقوله شديد اللهجة الى الكاهن الاعظم الاعمى "
تريسياس":
" يا تريسياس كنت تحسدني على ضوئي فاردت ان تجرني الى ظلمتك ، منذ
اليوم لن تستطبع ان تستطيل علي بما يمنحك العمى من تفوق ".
اذن النظرية الجديدة ( السونسطاسية) او هي ( الايكولاليا) التي تعتمد على
تراسل الحواس و تداعي الخواطر ، و تداعي الافكار ابطلت الوظيفة الالية الطبيعية
للعين ، و منحتها وظيفة اخرى ميتافيزبقية او ما بعد الرؤية ، مادامت البصيرة هي
الاصل و البصر الفرع من الية الرؤية بالمعنى الاعم.
اما ( الشم) لعل حادثة ابو
الهول عند ( هلينة الشرق) مصر ام الدنيا ،
ماثلة للاعين ، يوم حطم ( نابليون بونابرت) ( اوديب فرنسا) انف ،(ابو الهول) .
كرمز لكبرياء و شهامة و انفة الامة المصرية. انتقلت وظيفة الشم الى قيمة انسانية
نبيلة ( الكبرياء و العظمة و هيبة الدولة المصرية).
بينما ( الاذن) : لم تعد تؤدي الوظيفة السمعية ، يوم ان قطع الفنان الرسام
(فان غوخ) اذنه ليرسمها . صارت تؤدي وظيفة جمالية فنية. او ان الاذن اصبحت عاجزة
كل العجز عن التقاط كل الاصوات على جهاز رادار المبدع... و ادراك الابعاد و
احداثيات الهرتزية ما فوق و ما تحت الصوتية.
اما ( الفم او اللسان) في اسطورة اورفيوس عند المخرج السينمائي ( كوكتو) لم
يعد يؤدي حاسة الذوق البافلوفية ، انما الذائقة الفنية. فالفم يصبح اداة كلام و
قبل رمزا للاحاسيس و الغرائز العاطفية و
المشاعر ( الاورفيوسية).
اما ( اليد) : حاسة ( اللمس) لم تعد تؤدي هذه الوظيفة. انما صارت تؤدي
وظيفة مادية من ذهب ، حين صار البطل الخرافي (ميداس) كل من لمسه يتحول الى (ذهب) .
الى ان صار يتضرع الى الالهة من اعضائه التي تحولت كلية الى ذهب .
في اشارة الى " المادية" الليبرالية المتوحشة ، حين يصير الانسان
مقيدا ؛ مصفدا ، مكبلا باغلال البضائع.
حين يصير الطابع الصنمي للاشياء يتحول الى الطابع الانساني.
الجميل في هذه الحواس الخمس ( العين ... الاذن...الانف...الفم / اللسان....
اليد) ووظائفها الفيزيولوجية ( الرؤية... السمع...الشم...الذوق...اللمس) تؤدي
اغراضا ووظائفا اخرى و قيم اخرى و دلالات و رموزا اخرى و قيم اخرى ، سياسية اجتماعية ثقاقية اقتصادية . كما تؤدي
اغراضا ادبية فنية حديثة و ما بعد الحداثة.
و من بين نواميس الكون و نواميس
الطبيعة تلعب تراسل الحواس و تداعي الخواطر اهدافا اخرى و مكونات اخرى اخرى في
بناء الاسان الحديث و وبيئته الجديدة فيما بعد الحواس.
حين تعطى للعين. عينا ثانية ، و عينا ثالثة ، و عينا رابعة ، كما هي في علم فن صناعة السينما.
و حين تعطى لليد عدة تاويلات اخرى كما في علم السياسة و هلم جرا....
تمة فقط تبزغ حاسة اخرى تسمى اصطلاحا ( الحاسة السادسة). اين يكون
الاستشراف و المتوقع واللامتوقع هو الممكن ، و حين يكتب كل فن جيد و ادب جيد من
ذاكرة المستقبل كما قال ( افلاطون).