تجلي العصر
نبيل عودة
تهيب وهيب من طول الانتظار واكتأب، غلفته افكاره بشباكها حتى لم يعد يشعر بمن حوله، ضغطته موجة من التخيلات، اصابه شطط وتاه وراء المبتدأ وافتقد الخبر. غاص في دوامة الاكتئاب.
الضجيج في الرواق الممتد شديد، عشرات السائلين الباحثين عن مصائر ابنائهم. أيكون قد تبلد؟ أيكون قد فقد حسه الانساني؟ اعتراه رفض ... وانتفض واقفا مزيحا عنه همومه. تأمل اكتظاظ الرواق بالناس والحركة. خطى خطوات مترددة ذهابا وايابا، تأمل الباب المقفل واعترته طمأنينة. دفق من التفاؤل ملأ صدره، انتشر الفرح في كيانه وطرب لهذه الولادة المتجلية في هذا الزمن المتفجر. هل كان يتمنى لزوجته ولادة في زمن آخر؟ كيف لا تتوغل السعادة في كيانه والخصب يجيء مع الانفجار؟ مدد مبارك، ثمر بعد انقطاع أمل، خير بعد جدب، ثورة بعد صبر. يتذكر ما مر عليه بمجمله وليس بتفاصيله، يبني لنفسه عالمه بأفقه الواسع الممتد وليس بحدوده، بمعناه وليس بنصه. توسم الخير في هذا الضجيج،
---
رأى تجلي العصر، رأى كينونته وطرب لشارات النصر يرفعها النازفون دما والمتلون الما، اهتز كيانه من الاعماق وأصابه الارتعاش. مدد من الحماس سرى في دمه. نظر نحو الباب منتظرا من جهينة الخبر. سمع صراخها يعلو، اتكون الولادة بلا ألم؟ اتكون السعادة بلا ثمن؟ دفق من الدفيء احاطه وهو يرنو لأهل الحارة القادمين رجالا ونساء، افواجا افواجا ... من آخر الرواق. اراد ان يبتسم، حبس دموع الفرح، شدت سمعه بضع صرخات اخرى تعلو من خلف الباب المغلق وأهل الحارة يقتربون بضجيج، معهم عشرات الجرحى ممن يعرفهم وممن لا يعرفهم. مدد من الراحة، مدد من السعادة، تغرقه أجمل الأحاسيس، تتفجر من عينيه دموع الفرح، يقف امام الجمع المتدفق يبكي دون ان يشعر بالحياء، يتمنى لو يحمل عن الجرحى بعض الامهم، ان ينزف دمه بدل دمهم، ان تكسر عظامه بدل عظامهم، ينظر نحو الباب مستعجلا السعادة، لكن جهينة لا تبان، ينظر نحو العصر المتجلي بناسه واحداثه، بدأت الصرخات تخفت، يحيط به جمع غفير، تحيط به أجمل المشاعر، يعانقونه بيقين العارفين وعينيه تتنقلان بينهم، تبتسمان لهم ثم تتعلقان بالباب، حيث الخبر والامل.