فى أدب الجدل والحوار ١"
------------------------------
{ أُسُس لابُدَّ من الرجوعِ إليها }
؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛؛
* كانت بغدادُ عاصمةُ العراقِ، أقوى البيئات
العلمية والإسلامية؛ بما لها من ماضٍ عريق، وبهجرةِ الكثير من العلماء إليها_بعد
أن اتّخذتها الخلافةُ العباسية قاعدةً لِحُكمها_كان من الطبيعى أن يغلبَ عليها
المنهج العقلى،أو مذهب أهل الرأى،خاصةً فيما مرّت
به الدولة الإسلامية من
تعصُّب الدولةالأموية للنزعة العربية القومية،ثم تعصُّب الدولةالعباسية للموالى من
الفُرس واشتداد الصراعُ بينهما ، فظهرت كثيرٌ
من الفِرَق وتوالَد عن
ذلك نشأة الخوارج/العلويين/
المُرجئة/الجهنمية/المعتزلة
والأشاعرة، وغيرهم.
ثم إن اتّساع رقعة
الدولة الإسلامية ودخول بلادٌ لها
إرثٌ حضارى
وعقائدى ولُغوى وثقافى
إلى حوزة
الدولة الإسلامية
أدّى إلى تنوُّع
الواقع الإسلامى
ونشوء منهج النقل أو
العقل، أو مذهب أهل الرأى،
لمواجهة تلك التعدُّدية
ومراعاة ظروف الواقع ،لِلحَدِّ
من تناثُر
الآراء وتشتُّت المذاهب ، والحفاظ على الأُمّة ، بإرجاعها إلى أصول الدين وتعريف
العناصر
حديثة الانتماء إلى
الإسلام بحقيقة الدين الصحيح
مع مراعاة ظروف نشأتهم
وثقافتهم، وكانوا عليه من
عادات وتقاليد..
فكان" منهج النقل" يضيف إلى تقبُّل
النَّص واحترامِه
إعمالَ الفِكر، واستنباط الحُكم ،
والاجتهاد فى تفسير
النّصّ، فى مرونة تتماشى مع
مستجدّات الحياة بما
لايختلف مع الأصول.
*وقد عاصر (الإمامُ أبو
حنيفة) الدولتَين الأموية والعباسية (٧٠_١٥٠ه) ، وكان فى
الكوفة التى تعجّ
بالعلماء والعلويين،
وكان شاهداً على نشأة الفِرَق الأخرى ، فكان
صاحبَ عقل ورأى
واجتهاد فى مواجهة هذا التعدُّد ،
وكان عليه أن يجادلَ ويحتوى
ويناقش ، لكنه آثر أن
يبتعد عن ذلك إلاّ للضرورة القصوى بالمناظرة، حين التقى بعض
الملاحدة الذين
ينكرون وجود الخالق جلّ
جلاله، فقال لهم:
_ ماتقولون فى
رجُلٍ يقول : " إنى رأيتُ سفينةً مشحونةً مملوءةً
بالأمتعةِ والأحمال،قد احتوشتها
(حاصرتها) فى لُجّة
البحر أمواج ٌ متلاطمة، ورياحٌ
مختلفة، وهى من بينها
تجرى مستوية ، ليس فيها
ملاحٌ يجريها، فقالوا :
لا ، فهذا شئٌ لايقبله العقل، ولايُجيزه الوهم ، فقال أبو حنيفة: فياسبحان الله
إذا لم يجُز فى العقل
وجود سفينة مستوية من غير
متعهّد ولامُجرٍ، فكيف
يجوز قيام هذه الدنيا على اختلاف أحوالها، وتغيُّر أمورها وأعمالِها، وسعة
أطرافها، وتبايُن أكنافها (نواحيها) من غير صانع وحافظ ومُحدِثٍ لها !!
*وجاء رجُل من الخوارج،
اسمه(الضحّاك الشارى)
وقال
له:"تُب" ، فسأله أبو حنيفة: مِمَّ أتوب؟فقال الخارجى: من قولك بتجويز
الحكَمَين (يعنى الحكَمين اللّذَين كانا يُحكّمان بين على ومعاوية)..
فقال له أبو
حنيفة:"ألا تقبل أن تُناظرنى فى هذا
الموضوع ؟ فقبل الرجل
(الخارجى) ، فقال له أبو حنيفة: فإن اختلفنا فى شئٍ ممّا تناظرنا فيه،فَمَن
يحكُم بينى وبينك ؟
فردَّ عليه الخارجى:إجعَل أنت
مَن شئت (أى حكماً)،
وكان مع الخارجىّ صاحبٌ له،
فالتفت أبو حنيفة إلى
هذا الصاحِب، وقال له:اقعُد
فاحكُم بيننا
فيما نختلفُ فيهِ
إن اختلفنا ، فسُرَّ الخارجىّ
بذلك، ثمّ قال أبو حنيفة له :أترضى بهذا حَكماً بينى وبينك، قال:نعم ، فقال أبو
حنيفة له:
_فأنتَ قد جوّزتَ
التحكيم،فبُهٓت الخارجىّ، ولم يُجرِ جواباً.
* وهو القائل
:"لاتفتِ إن استفتوك فى المسائل، ولاتناقشهم فى المناظرات والمُطارحات،
ولاتذكُر لهم شيئاً إلّا عن دليلٍ واضح، ولاتطعن فى أساتذتهم فإنّهم يطعنون
فيك".
*حتى عندما غالى بعضُ
الناس ِ فى ذَمٌِه لدرجةِ وصفِه بالزندقة وعداوةِ السُّنَّة وإفساد الدين، عدَّ
هذا من عداوةِ الصِّغارِ للكِبار، ومِن غيظ الأقزامِ لشموخِ العمالِقة، فدخلَ عليه
الفقيهُ الكوفى(وكيع بن الجرّاح فرآه مطرِقاً ، ثم رفع رأسَه قائلاً :
إن
يحسدونى فإنّى غيرُ
لائِمهم
قبلى من الناسِ أهلُ الفضلِ قد
حُسِدوا
فدامَ لى
ولهم مابِى ومابهِم
وماتَ. أكثرُنا
غيظاً بما يجِدُ
* وكان يقول:"
اللهمَّ مَن ضاق بنا صدرُه، فإنَّ قلوبَنا
اتّسَعت له".
* وكان لايتعصّب
لفكرته، حتى قيل له:" ياأبا حنيفة،
هذا الذى تفتى به هو
الحقّ الذى لاشكّ فيه، فأجاب :
واللهِ لاأدرى، لعلّهُ الباطِلُ الذى لاشك فيه.
* وعوَّد تلميذَه (أبا
يوسُف)بعدم الاستسلام أو المتابعة له بلاتمحيص، وقال له :" ولانكتُب كلَّ
ماتسمعه منّى ، فإنّى قد أرى الرأىَ اليوم فأتركه غداً،
وأرى الرأى غداً فأتركه
بعدَ غد".
* وقال : "
وإيّاكَ والغضب فى مجلس العلم".
*وكان يقول:"
قولُنا هذا رأى، وهو أحسنُ ماقدرنا عليه، فمَن جاء بأحسن من قولنا فهو أولى
بالصوابِ منّا".
________________________________
*هكذا تواضع العلماء
الكبار..أحسنوا حين حاوروا
وحين جادلوا، متسلّحين
بالدليل والبرهان وسعة الصدر والتواضُع..لعلَّ ذلك يفيدنا فيما وصلنا إليه
من أن الذين لم يبلغوا
من العلمِ شأواً لهم فورة
غطرسة وكبرياء وتعصُّب
لأفكارهم وآرائهم، وعدم
تقبُّل للرأى الآخر .
وإن هذا لَيفيدنا فى النقد، وتقبّل وجهات نظر الآخرين ورؤاهم.
_____________________
حامد حبيب_ مصر