حامد حبيب
سورين كيركجارد 3
_ ما لَهُ و ما عليه _
!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
[ من كتابى :
نقد الفلاسفة]
-----------------------------
*
تناولنا فى المنشورَين السابقَين فلسفة (سورين
كيركجارد) وماتنطوى عليه .. أصاب فى النظرية
وأخطأ فى التدليل عليها ، فهدم كثيرا ممّا بناه
.
١) فى حديثه عن المدرّج الحسّى ، كان موفّقاً
إلى حدٍّ كبير ، فى مثل قوله :" ..وذلك لأن الإنسان الذى
يحب
الجمال الحسّى ويخضع
لنزواته الحسيّة ينساق مع التيّار على
غير هدى..." وهو مثل ما ذكره
( سقراط )
بقوله : " الحكمةُ
إذا أقبلَت خدمت الشهواتُ العقول
، وإذا أدبرت
خدمت العقول الشهوات ". وهو
مانقبله ونؤيّدُه.
٢)
وفى مثل قوله :
"..إنّ الذاتَ الإنسانية
ذاتٌ أخلاقية فى صميمها ". يؤكّد
فطريِّة الخير فى الإنسان ، وأن الشرَّ مُكتسَبٌ ، وهو مايتفق مع قولِه
( صلى الله عليه وسلم) :
" كلُّ مولودٍ يُولَدُ
على الفطرة ".
٣) فى قوله " إنّ مَن يحاول البرهنة على
وجود الله
يُعتبَر أكثر غباءًا "..وهو مُخقٌّ نريده
فى ذلك ، فالله
لايحتاج
إلى برهانٍ لإثبات
وجوده ، فكل ما فى الكون
بدءاً من وجود
الإنسان ذاتِه برهانٌ
كافٍ
لإثباتِ وجوده ، فالبحث عن دليلٍ عَمَى وجهل
وغباء
______
٤) وإن كنتُ أتّفق معه فى اختياره قصة إبراهيم ( عليه السلام ) ، للتدليل على الانتقال من المدرّج الحسّى إلى الأخلاقى ثم الإيمانى،
فلا أتفقُ معه فى سائر القصّة على الإطلاق ، لخروجها عن الصدق وعن
الحقيقة.......وذلك لأخطائه التالية :
* استند إلى "العهد القديم" دون
التعرُّض له بالنقد
والتمحيص
، فوقع فى أخطاءٍ
عِدَّة . فالنَّصّ فى العهد القديم
حاد عن الحقيقة وزيّفها وأحدث بها
تحريفاً واضحاً ، فوقع فى عامل من عوامل الوقوع
فى خطأ التفكير ، وهو " سُلطة المصدر"
، باعتباره
نصّ دينى لايقبل المناقشة ، وكان عليه بدَورِه
حتى يكون منصفاً أن يطّلع على النَّصّ القرآنى_ فى مقابل
_ فيقارن بين النصَّين أولاً ، ويُعمل عقلَه فى
اختيار
النّص الأمثل للدلالة على مايقول . وربّما يكون
سبب الوقوع فى الخطأ ، عامل آخر هو : التعصُّب . وسنوضّح خطأ النصّ فى الٱتى:
أولاً: أنَّ الذبيحة هو (إسماعيل) وليس(إسحاق)
كما
زعم ، أو أثبت العهد القديم الذى استند إليه،
لأن (إسماعيل) وُلِد قبل (إسحاق) بحوالى أربعة عشر
عاما ، وكان الابنُ الأوّل لابراهيم الذى كان
يبلغ من العمرحينئذٍ ستةً وثمانين عاما. وكان
اسماعيل ، حين رأى أبوه رؤيا الذبح
قد بلغ السعى ، أى بلغ
السّنَّ الذى يسعى فيه لقضاء مصالحه والسعر إلى
العمل. وكان الحدث بالقرب من الكعبة، حيث كان يعيش اسماعيل وأمه هاجر . فكيف تقع البشارة بإسحاق وأنّه سيولَد له يعقوب ، ثم
يؤمَر بذبح
ابنه اسحاق وهو فى هذا السنّة ، قبل أن يتزوج
ويولَد له يعقوب...فهذا يناقض البشارة المتقدّمة.
(( وإنها حملهم على ذلك ، حسدٌ تجاه العرب ، فإن
العرب
من اسماعيل ، والرسول ( صلى الله عليه وسلم) منهم ، فحرّفوا
كلام الله وزادوا فيه)).
ثانياً : وجد الأب ابنَه اسماعيل صابراً محتسباً
يقول له فى ثبات كامل ( يا أبَتِ افعَل
ماتُؤمَر . ستجدُنى
إن شاء َ اللهُ منَ الصابرين) ، وفي هذا الردّ
سُمُوٌّ فى الأدب ، حيث
قدّم مشيئة َ الله
تعالى ، وسلّم اسماعيلُ جبينَه
لأبيه لِأبيه ليُنفّذَوالأمر فيه بالذبح،
ولم يكن الأمرُ كذلك فحسب ، بل إنه قال لأبيه:
اشدد رباطك حتى لا أضطرب ، واكفُف
عنى ثيابك
(أبعده) حتى لايتناثر عليها شئٌ من دمى فتراهُ
أمى فتحزن ، وأسرِع مرَّ السكّين على حلقى
، ليكون أهون للموت علىّ ، بل طلب من أبيه أن يذبحه من
رقبته ، حتى لاينظر إليه فتأخذه الرأفة ، فيصعب
على أبيه تنفيذ الأمر، وقال له : إذا أتيتَ أمى
فاقرأ عليها السلام منّى ...إلى بقيّة القصة .
وكان
هذا ابتلاءًا إيماناً
عظيماً من الله
تعالى لإبراهيم ، نجح فيه وابنه اسماعيل(عليهما السلام) ،
إذ فداه الله بذبحٍ عظيم.
* فإذا كان(سورين) قد استند إلى نصّ فى العهد
القديم ، فلنا أن نُناظر بما لدينا
بِنَصٍّ من القرآن الكريم ، إذ قال الله تعالى 🙁..فبشّرناهُ
بغُلامٍ حليمً .
فلمّا بلغَ معه السَّعىَ قال يابُنَىَّ إنى رأيتُ فى المنام
أنّى أذبحُك فانظُر ماذا ترى . قالَ ياأبَتِ
افعَل ماتُؤمَر
ستجدنُى إن شاء الله منَ الصابرين . فلمّا
أسلمَا وتلَّه
لِلجَبين . وناديناهُ أن
ياإبراهيم . قد صدَّقتَ الرؤيا
إنّا
كذلكَ نجزى المُحسنين .إنَهُ من
عبادِناالمؤمنين .
وبشّرناهُ بإسحاقَ نبيّاً من الصالحين . وباركنا عليه وعلى إسحاقَ ومن
ذُرّيّتهِما مُحسِنٌ وظالمٌ لنفسِهِ مُبين).
* فالبشارةُ
بإسحاق وردت عقب
قصة الذبيح ، فكيف يُبشّرُ الله إبراهيم بأنه سيُنجب إسحق الذى سيكون ُ "نبياً "، ثم يأمره بعد
ذلك بذبحه ، ثم أن البشارة بإسحاق جاءت مقترِنة بأنه سيعيش حتى يتزوج
ويُنجب يعقوب، فكيف يؤمَر بذبحه ، وقد
سبقته بشارة.
* ثم أنَّ النصّ الوارد فى " العهد
القديم" :" خُذ ولدك
وحيدك الذى تُحبّه إسحاق..إلخ". .ولم يكن إسحاق هو ابنه
الوحيد على الإطلاق
ولا الأكبر ، لكنّه تحريفٌ مُتَعمّد ، إذ وُلد إسحاق بعد اسماعيل بنحو أربعة عشر
عاما ، و" العهد القديم" ذاته ، ينُص على ذلك ، بل ينص أيضاً على أن
اسماعيل قد بقى حيّاً
إلى وفاةِ أبيهما إبراهيم ، وأنه قد اشترك مع
إسحاق
فى دفن أبيهما ببلدة" حبرون" التى هى
" الخليل ".
_ فياله من تعارُض واضح، لم يلتفت إليه (سورين)
فخضع لسلطة المصدر دون تمحيص، وخضع أيضاً
للتعصُّب .
ثالثاً :
أنّ ( سورين) وهو
يتحدّث. عن المدرّج الإيمانى يأتى بنصوصٍ أو عبارات لو
دقَّق النظر فيها
مليّاً ، لما استند آليها ، فإتيانه بها يخالف
فكرته ذاتها
فى التدرُّج
، فكأنه أصبح مناقضاً لنفسه فى المدرّج الإيمانى. فهو يقول فيما استند من
عبارات من العهد
القديم
: " فى ليلةٍ غامضةٍ
سوداء" وخرج إبراهيم بابنِه يهيمُ
على وجهه حزيناً مهموماً ، سائراً
وسط صحراء جرداء يتصبَّبُ عرَقاً ، ويملأه الأسى وتلوعُه
الحسرة" ..فهل الذى يبلغ ذُروةَ
الإيمانِ يحزَن لأمر الله ويتمكّن منه اليأس والحسرة إلى هذا الحد ، أم تتحوّل لديه
الأوامر الإلهية إلى الإذعان والتسليم عن رضا ، لأنه تتوغّلُ
بداخلِه معانٍ أخرى تتغلّب على
هذه المعانى السيئة ، وتقوى لديه المشاعر
الإيمانية وتهزم وساوس الشيطان.
* فى قوله :" وخرج ابراهيم بابنه يهيمُ على
وجهه مهموماً ، سائراً وسط
صحراء جرداء......" أتى ب
"صحراء جرداء" مُتجاهلاً ذكر "
مكّة" حتى لايُشير إليها
بصراحة ، لأن
ذكرها سيفضح تحريفهم ،
فليس
موطن إسحاق مكة ،
وإنما كانت موطن إسماعيل ، تناقُض واضح جدّاً وفاضحٌ جداً ، وأظن أن(
سورين) رضى به تعصُّباً ، فلم يكلّف نفسه وهو الفيلسوف المنوط
به النقد والتمحيص
وتحرّى الحقيقة أن يواصل إعمال الفكر ، لكنه تخلّى عنه فى النهاية مستسلماً
للزيف والتحريف.
* لقد جانب ( سورين) الصواب فيما استدلّ به على
المدرّج الإيمانى ، بل لقد هدم فكرتَه عن هذا المدرّج، بالأدلة التى ساقها ،
فلم تخدم الفكرة على الإطلاق، بل كانت معاول هدم . ولاينفى ذلك
اتفاقنا معه فيما ذكره نظرياً فى مدرجاته الثلاث، ومآخذنا عليه تتركّز فى الاستدلال
على المدرج الإيمانى فقط.
______________
حامد
حبيب _ مصر
حامد حبيب