نهاية الفن
العقيد بن دحو
أهل مكة ادرى بشعابها ، و الاغريق ؛ و الاغارقة خاصة ادرى بفنونها
الزمكانية ( الزمانية - المكانية) ، و لما جاء على لسان العوام : " ان الفن
لا يؤكل خبزا " !. او كما جاء في سوسيولوجية الأدب: " ان الادب و الفن
الذي يعيل صاحبه ما هو الا أدب سوء لا غير " !.
ولما كانت سائر الفنون عموما تمتاز بما يمتاز به المجتمع : من عيش ، فرح ،
حزن ، شقاء ، سعادة ، تقدم ، تأخر، بداية ، و نهاية . فحتما مع ظهور و تعدد
المذاهب و المدارس الأدبية و الفنية ، و لا سيما السيريالية و الوجودية وكذا
التعبيرية و اللجوء إلى التعمية ،
العدمية؛ التفكك، الغربة ، الهروب من المجتمع ؛ و اللجوء إلى الأسطورة عجلت بنهاية
الفنون و ما بقي الا الأثر الذي يخلفه الحدث و تغليف الواقع باللاواقع ؛ بالمزيد
من الغموض و التورية على اساس لم يعد بالإمكان إبداع اكثر مما كان ، بالواقع شيئا واضحا ليصير الفن واضحا ، و لم
يعد شيئا يعلم و يمتع و يهز ، و لا قائم على النسبة و التناسب . كما لم يعد
الإنسان مضافا إلى الطبيعة و لا قائم على لعبة التوازن. بعد ان انتقلت الطبيعة في
واد و اغترب و تفكك الإنسان في واد اخر . انتقل الطابع الصنمي للبضائع للانسان
فأين الإنسان اذن !؟
بل أين الطبيعة !؟
بعد ان تخلص الحيوان عن قوقعته ، و تخلص الإنسان عن بيئته ؛ تلك البيئة
التي لحقت بها الزراية ، التشويه و الدمار
الايكولوجي و صارت كتلة من نشاز التلوث بكل انواعه : الصلبة- السائلة- الغازية.
لقد عرفت و شهدت الاغريق - و ما ادراك ما الاغريق - شهد شاهد من أهلها عن
نهاية ماسوية عن واحد من اعرق فنونها (المسرح) و ما ادراك ما المسرح !. بالنسبة
لليونان الذي كان لها دين و دنيا و عبادة
، أين امتزجت روح الإله بنفس ودم البشر مما أعطوا على مر الازمان فنا و ادبا جميلا
يهز الخلق من ديباجته.
أدركت الاغريق مبكرا عبر النص الدرامي ( ملهاة الضفادع) للشاعر الدرامي
الكوميدي ( لرستوفانز) القرن : (-4ق.م) نهاية المسرح ، و من خلاله نهاية الفن.
ويمكن من خلال هذه الفقرة تفشي سر شر هذه النهاية :
" حين ذهب الإله ديونسيوس إلى العالم الاخر ليسترد واحدا من الشعراء
الثلاث ( صوفوكل - يوريوبيدز - اسخيلوس) لم يكن قد بقي منهم احدا ، ذاك ان الماساة
اليونانية انتهت بموت هؤلاء الشعراء الثلاث " !.
كنت لا أريد أن أقول بموت و اغتيال شعراء الدراما عندنا في الجزائر :
" عبد الرحمان ولد كاكي عن مسرح مستغانم - وعبد القادر علولة عن المسرح
الجهوي بوهران - وعز الدين مجوبي عن المسرح الوطني بالجزائر العاصمة ) انتهى
المسرح عندنا. ما المظاهر الاحتفالات التي تقام هنا وهناك الا مجرد كرتفالات في
دشرة بعيدا عن فلسفة و فكر و اسلوب و نهج المسرح كدراما كونية مدرسة و مذهبا !.
في هذا العالم الذي تغرب عنه الإنسان ولم تعد فيه قيمة الا للاشياء. أصبح
الإنسان شيئا بين الأشياء، بل يبدو أشد الأشياء عجزا و ضالة ، و منذ ظهور
الانطباعية تحلل الكائن الانساني إلى ضوء و لون ، و عومل كما لو انه مجرد ظاهرة
طبيعية. لا تختلف عن غيرها من الظواهر في شيئ. لقد قال ( سيزان) : " لا ينبغي
أن يظهر الإنسان في الصورة " ! وتدور مركز الإنسان بعد ذلك باستمرار. فأصبح
بقعة من اللون بين بقع الألوان الاخرى او غاب اصلا عن تلك المناظر الطبيعية
المهجورة وشارع المدن المقفرة. شوه.
وعندما يغترب الإنسان عن نفسه ، يرى في تلك النفس صنما او قناعا او تمثالا
اصما.
وهذا كما گان يقول ( مالرو) :
" ان المتحف يجعل الصليب يغدو ان يكون نحثا " !.
فإن جميع الفنون تتجه نحو ( المتحف) بعيدا عن الإنسان، بل تذكر به ، بأنه
مر من هناك ذات تاريخ او ما قبل التاريخ ، او شبيها بالتاريخ ، او من جنون التاريخ
، او حتى الصفر التاريخي ؛ يوم تسقط التماثيل و الصور و الاقنعة ، تسقط البشر و
تسقط الدول و يسقط على الجميع سقط المتاع !.
تكفي نظرة بسيطة لعين الواقع المعاش حين تهرب الجماهير من المجتمع من
التظاهرات الفنية ، تهجر القاعات و الارائك و الكراسي خوفا من قدر مجهول ، تمة فقط
النذر الشؤم بنهاية الفن ، بل بنهاية الفنون جميعها.
ومنذ لم يسمح فيه للسيرياليين بالكلام في سنة 1933 ، مؤتمر الكتاب للدفاع
عن الثقافة ، و منذ استشهاد معظم كتابها اعتلى على المشهد الطابع الضبابي ؛ و
التجا معظمهم إلى الأسطورة ليس كخلاص او نقش في الماضي السحيق و انما لعجز الفن عن
إضافة الإنسان إلى الطبيعة.
اما اذا أراد الفن ان يبعث من جديد عليه ان لا يفرض علينا اية فكرة حضارية
مسبقا ؛ بل يجب ابعاد مسبقا كل نزعة
انسانية لا تكفيرية و لا تطهيرية ؛ لا تغييرية و لا تفكيرية.
ومع هذا يجب ان نقر بنهاية الفن ؛ تماما كما اتبث العلم ان القمر خاليا من
ربات شعر و لا ربات جمال ، و انه مجرد مجرة حجر تنعدم فيه الحياة و جاذبية الوزن
الثقلي.
يبقى ان نتساءل اخيرا ماجدوى وزارات الثقافة و الفنون ، إذا كان المكون
الفني اوشك عن النهاية.