اللغة العربية في زمن عجز اللغات
العقيد بن دحو
* - " تعلموا اللغة العربية فإنها تثبت العقل وتزيد في المروءة "
/ (حكمة) .
هل ولى عصر اللغات ، هل اللغة لم يعد يعول عليها كوسيلة وكغاية حوار تخاطب
بين فئات او جماعات او قربى اوحتى افراد المجتمع ، و هل تعيش و تحيا و تموت اللغة كما يموت الكائن الحي البشر و
الحيوان و الشجر !؟
هل اشارت الآداب العالمية منذ نشاتها إلى اللغة ، و هل تمة فرق بين الأدب و
اللغة !؟
في البدء لا يمكن فصل الظاهرة اللغوية عن الظاهرة الإجتماعية، بل لا يمكن
فصل اللغة عن العرق و البيئة و التاريخ و الدين.
فاللغة و الدين امران اساسيان للمجتمع و السياسة. شانهما شان العرق.
فالمشاركة في اللغة تساعد على تبادل الاتصال ، مما يشكل اساسا للتعاون في الحكم .
كما يساعد الانتماء إلى ديانة واحدة على الربط بين الناس.
جل الدراسات و البحوث تشير إلى أن
يكون حكم الناس أكثر سهولة و يسر و سلام ووئام و أمن، إذا كانوا يتكلمون
لغة واحدة و يدينون الى ديانة واحدة.
اما اذا كانت لدى الشعب لغات و ديانات مختلفة ، فإن ذلك يعود إلى طرح عدة
تساؤلات هل تمنح المساواة للديانات و اللغات المختلفة ؟ وهل يجب تحملها بالتساوي ؟
أم يتحتم على الدولةان ترتبط لديانة واحدة او لغة واحدة؟ وهل يمكن للمجتمع المجزا
ان يقيم حكما مشتركا؟.
صحيح لغة الضاد ، لغة مكنونة في كتاب مكنون. غير ان جل الدراسات و الآداب
العالمية و الفنية من الكلاسيكية التقليدية الاخلاقية إلى جل الاتجاهات الحديثة
تشير إلى عجز اللغة ، رغم أن الآثار الكلاسيكية اليونانية الدرامية منها تشير إلى
اللغة انها المحب الخل العزيز.
اذ يقول ( فيلوكتيتيس) عند صوفوكليس الاغريقي : " أيتها اللغة العزيزة
هل اسمع يونانيا يخاطبني الا بعد هذا الزمن الطويل !. " .
كما اشار يونسكو و ارثر ميللر إلى عجز اللغة بشكلها المباشر.
فإما يونسكو : فقد انصبت ثورته على ما اطلق عليها مسمى (العادات اللغوية)
بوصفها موصلا جيدا من مواصلات التفاهم بين الناس ، او الأصح توصل ردئ لتحقيق هذا
التفاهم . ذاك ان يونسكو كشف لنا على جانب كبير من الخطورة و الأهمية: ان اللغة
التي نظن اننا نتواصل بهاونتفاهم قاصرة عن اي نوع من انواع التواصل او التفاهم ،
بل كثيرا ما تؤدي إلى أن نتقاطع و لا نتفاهم حتى يشعر الفرد احيانا و كانه في عزلة
عن مجتمعا بعد ان انقطعت وسائل الاتصال بينه و بين الآخرين.
تماما كما كان العجوزان بطلا مسرحية ( الكرسي) يعيشان في قلعة مهجورة
بجزيرة نائية لأنها لا يعرفون كيف يتصلان بافراد المجتمع ، فاللغة عقبة في طريقهم
كراسي في عرض الطريق . أنهما وحدهما و لا يربط بينهما سوى الظلام و العزلة و
الاغتراب ، و لذلك يكتفي العجوز بمخاطبة زوجته بلغة يتوهمانها يتفاهمان بها و
الحقيقة انهما يتوهمان وكفى ، فحديثهما ليس أكثر من صيغ لفظية أعدت من ذي قبل و هي
تدور حول أسئلة جاهزة عن إجابة جاهزة . و حينما يتاح اللقاء بينهما وبين أعياد المجتمع يساعد العجوز بخطيب يحكي لهم قصة
حياته ، و لكن الخطيب بدوره لا يجد من الالفاظ ما يعبر به سوى كلمة وداع التي تخرج
من فمه ضعيفة تتحشرج .
ان البطل يقغ وحده وسط الكراسي الفارغة ، و اللغة التي يستخدمها أكثر من
كلمات فارغة. وزوجته التي يخاطبها ليست أكثر من رجع صداه ، و الجمهور الذي ينتظره
ليس اكثر من أشباح. انه عالم فارغ، عالم ملئ بالفراغ ، عالم تتم فيه اكبر
عملية(تفريغ) هائلة !.
تفريغ الكراسي ....، تفريغ الالفاظ ... ، تفريغ الناس ...، و تفريغ
اللغة... وتفريغ لكل شيئ.
كما عالج أرثر ميللر ويونسكو ظاهرة اللغة او عجز اللغة عن التواصل و
التخاطب في مسرحية (الخراتيت) و هي عبارة عن ظهور حيوانات غريبة ظهرت فجأة في
زمكان غريبيبن ، كلما من صادفهم في طريقه يتحول إلى خرتيت ، إلا شخص واحد تحامل
على نفسه و فضل ان يعيش انسانا رغم الخوف و الفوبيا و الرهاب ، بمعنى الإنسانية هي الشيئ الوحيد الذي لا
يستطيع الانسان التنازل عنها.
ولأن لا يمكن فهم اللغة الا من خلال النصوص مختلف مدارسها و مذاهبها ، و
ليست من خلال قالب " سيبوييه " الجاهزة المعدة للحفظ غيبا و ليس قي راس
كامل الاعداد . تظل اللغة عاجزة كل العجز عن تفهم هذا العصر في ظل تشابك دواليبه و
خيوطه، و تحولت ابجدهياته إلى لوغاريتمات ولوبوسات يصعب فك شفرتها، لغة منطق
اللامنطق او لغة سيزيف الاسطورية كلما اوشك يضع حجرة فهامهته كلما عادت صعدا نحو الاسفل
، لغة العبث ، و مع ذلك ليست أمام الخلائق الا الادعاء بأنها تتواصل و تتفاهم بهذه
اللغة و هي بالاصل تزداد بعدا عن بعضها البعض ،
و شططا و عطا و مطا حلى حد تعبير عميد الأدب العربي د . طه حسين .
هذا يوصلنا إلى ما يسمى بمرض اللغة و من حيث اللغة هي المرض او على حد
تعبير الفيلسوف افلاطون اللغة وسيلة و ليست غاية ، تعود بنا إلى فكرة ميكيافلية
اللغة ، او ماكلوهانية اللغة ، حين تصير اللغة ذاتها الوسيلة ذاتها الغاية و
السياسة طرفان في قضية واحدة.
وحتى ان حاول اللغوي الفرنسي( بوهور) ان ينحاز عاطفة ووجدانا إلى لغته الام
فولتير بقوله : " نحن الفرنسيين إذا نطاقنا نطقنا صحيح ، فلغة الألمان صخب ،
و لغة الانجليز نقيق ، ولغة الاسبان زفير ، و لغة الإيطالية صفير وحدهم الفرنسيون
الذين يتكلمون...يتكلمون....يتكلمون ".
فجميع لغات العالم في ازمة ، و لذا لم يكن اليوم العالمي للغة العربية صدفة
، و انما من اجل الخلاص و الدفاع عن الضمير الانساني ، و البحث المتواصل عن تجديد
اللغة كما هو جاري في تجديد الدين و عدم التزمت والوقوف كراسي او كخراتيت في خلقة
عجلة التجديد و التغيير ، ليشت اللغة كصوت كلمة شعرية ساحرة أسرة، و انما كوعاء
فكر و فعل ، يجعلها فلسفة حياة تجري في كيان الناس تكفيرا و تفكيرا ؛ تطهيرا و
تغييرا ؛ ثم تجريبا و تجريدا.
ولأن لكل شيئ وقت ونهاية فاللغة ايضا وقتا ونهاية ، لكن الثقافة خلاصها
الوحيد إذا ما ارتبط عضوية بالمجتمع تتكافا مع عصره و تتكيف مع دواليبه بيئة وعرقه
وتاريخه و عاداته و تقاليده.